إفساد لمعنى الأمومة
وأول
هذه النتائج وأبرزها: أنه يفسد
معنى الأمومة كما فطرها الله، وكما
عرفها الناس. هذا المعنى الذي ليس
في الحياة أجمل ولا أنبل منه.
فالأم
الحقيقية في التصور المعروض
للسؤال، هي صاحبة البويضة
الملقحة، التي منها يتكون الجنين،
هي التي ينسب إليها الطفل، وهي
الأحق بحضانته، وهي التي تناط بها
جميع أحكام الأمومة وحقوقها من
الحرمة والبر والنفقة والميراث
وغيرها.
وكل
دور هذه الأم في صلتها بالطفل أنها
أنتجت يوما ما بويضة أفرزتها بغير
اختيارها، وبغير مكابدة ولا مشقة
عانتها في إفرازها.
أما
المرأة التي حملت الجنين في
أحشائها وغذته من دم قلبها أشهرا
طوالا، حتى غدا بضعة منها، وجزءا
من كيانها، واحتملت في ذلك مشقات
الحمل، وأوجاع الوحم، وآلام
الوضع، ومتاعب النفاس، فهذه مجرد
"مضيفة" أو "حاضنة" تحمل
وتتألم وتلد، فتأتي صاحبة
البويضة، فتنتزع مولودها من بين
يديها، دون مراعاة لما عانته من
آلام، وما تكون لديها من مشاعر،
كأنها مجرد "أنبوب" من
الأنابيب، التي تحدثوا عنها برهة
من الزمان، لا إنسان ذو عواطف
وأحاسيس.
حقيقة الأمومة
وإن
من حقنا -ومن حق كل باحث عن الحقيقة-
أن يسأل معنا هنا عن ماهية الأمومة
التي عظمتها كتب السماء، ونوه بها
الحكماء والعلماء، وتغنى بها
الأدباء والشعراء، وناطت بها
الشرائع أحكاما وحقوقا عديدة.
فالأمومة التي هي أرقى عواطف البشر
وأخلدها وأبقاها.
وهل
تتكون هذه الأمومة الشريفة من مجرد
بويضة أفرزها مبيض أنثى ولقحها
حيوان منوي من رجل.
إن
الذي يثبته الدين والعلم والواقع،
أن هذه الأمومة إنما تتكون
مقوماتها، وتستكمل خصائصها، من
شيء آخر بعد إنتاج البويضة حاملة
عوامل الوراثة، إنه المعاناة
والمعايشة للحمل أو الجنين، تسعة
أشهر كاملة يتغير فيها كيان المرأة
البدني كله تغيرا يقلب نظام حياتها
رأسا على عقب، ويحرمها لذة الطعام
والشراب والراحة والهدوء. إنه
الوحم والغثيان والوهن طوال مدة
الحمل. وهو التوتر والقلق والوجع
والتأوه والطلق عند الولادة. وهو
الضعف والتعب والهبوط بعد الولادة.
إن هذه الصحبة الطويلة -المؤلمة
المحببة- للجنين بالجسم والنفس
والأعصاب والمشاعر. هي التي تولد
الأمومة وتفجر نبعها السخي الفياض
بالحنو والعطف والحب.
هذا
هو جوهر الأمومة. بذل وعطاء، وصبر
واحتمال، ومكابدة ومعاناة.
ولولا
هذه المكابدة والمعاناة، ما كان
للأمومة فضلها وامتيازها، وما كان
ثمة معنى لاعتبار حق الأم أوكد من
حق الأب.
إن
أعباء الحمل، ومتاعب الوضع، هي
التي جعلت للأمومة فضلا أي فضل،
وحقا أي حق، وهي التي نوه بها
القرآن الكريم، وأحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم وحسبنا أن نقرأ
في كتاب الله (ووصينا الإنسان
بوالديه إحسانا، حملته أمه كرها
ووضعته كرها، وحمله وفصاله ثلاثون
شهرا)، (ووصينا الإنسان بوالديه،
حملته أمه وهنا على وهن، وفصاله في
عامين).
ومعنى
"وهنا على وهن": أي جهدا على
جهد، ومشقة على مشقة، مما يؤدي بها
من ضعف إلى ضعف.
وهذه
المعاناة التي تتحمل الأم آلامها
وأوصابها راضية قريرة العين، هي
السر وراء تأكيد القرآن على حق
الأم ومكانتها وأوردها فيما ذكرنا
من آيات، وهي السر كذلك وراء تكرار
الرسول صلى الله عليه وسلم الوصية
بها، وتأكيد الأمر ببرها، وتحريم
عقوقها، وجعل الجنة تحت أقدامها،
من مثل: "إن الله يوصيكم
بأمهاتكم، ثم يوصيكم بأمهاتكم، ثم
يوصيكم بأمهاتكم، ثم يوصيكم
بآبائكم، ثم يوصيكم بالأقرب
فالأقرب".
وفي
الحديث المشهور في إجابة من سأل: من
أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:
"أمك … ثم أمك… ثم أمك… ثم
أبوك".
وفي
مسند البزار: إن رجلا كان في الطواف
حاملا أمه يطوف بها، فسأل النبي
صلى الله عليه وسلم: هل أديت حقها؟
فقال: "ولا بزفرة واحدة -أي من
زفرات الطلق والولادة". فإذا
كانت الأم لم تتحمل أي شيء من هذه
المخاطر والأوجاع والزفرات فما
فضل أمومتها؟ ومن أين تستحق كل ما
جاءت به الوصايا النبوية من زيادة
برها؟
الأم هي الوالدة
ولا
شك أن خير وصف يعبر عن الأم وعن
حقيقة صلتها بطفلها في لغة العرب
هو "الوالدة" وسمى الأب
"الوالد" مشاكلة للأم، وسميا
معا "الوالدين" على سبيل
التغليب للأم الوالدة الحقيقية،
أما الأب فهو في الحقيقة لم يلد،
إنما ولدت امرأته. وعلى هذا الأساس
سمي ابن المرأة "ولدا" لها،
لأنها ولدته، وولدا لأبيه كذلك
لأنها ولدته له.
فالولادة
إذن أمر مهم، شعر بأهميته واضعو
اللغة، وجعلوه محور التعبير عن
الأمومة والأبوة والبنوة.
وما
لنا نذهب بعيدا. وهذا هو القرآن
الكريم يحصر حقيقة الأمومة في
الولادة بنص حاسم، فيقول في تخطئة
المظاهرين من نسائهم: (ما هن
بأمهاتهم، إن أمهاتهم إلا اللائى
ولدنهم).
بهذا
الأسلوب الجازم الحاصر، حدد
القرآن معنى الأمومة: (إن أمهاتهم
إلا اللائى ولدنهم). فلا أم في حكم
القرآن إلا التي ولدت.
والخلاصة
أن الأم التي لا تحمل ولا تلد كيف
تسمى "أما" أو "والدة"؟
وكيف تتمتع بمزايا الأمومة دون أن
تحمل أعباء الأمومة؟
وأستطيع
أن أضرب هنا مثلا بارزا للعيان
يوضح موقف الشرع من الأم الحقيقية.
لماذا كانت الأم أحق
بالحضانة
روى
أحمد وأبو داود عن عبد الله بن عمرو
أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن
ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري
له حواء، وثديي له سقاء، وإن أباه
طلقني وزعم أنه ينتزعه مني! فقال
صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به
ما لم تنكحي" (أي تتزوجي).
وهكذا
أعطى الشرع حق الحضانة للأم وقدمها
على الأب. وجعلها أحق بطفلها منه،
لما ذكرته هذه المرأة الشاكية من
أسباب وحيثيات تجعلها أحنى على
الطفل وأرفق به وأصبر على حضانته
من أبيه، فقد صبرت على ما هو أشد
وأقسى من الحضانة، حين حملته كرها
ووضعته كرها.
فما
تقول هذه الأم المستحدثة إذا
اختلفت مع زوجها في أمر حضانة
الولد؛ وبأي منطق تستحقه وتقدم على
أبيه، ولم يكن بطنها له وعاء، ولا
ثديها له سقاء؟
إن
قالت: إنها صاحبة البويضة التي
منها خلق، فالأب كذلك صاحب الحيوان
المنوي الذي لولاه ما صلحت البويضة
لشيء، بل لعله هو العنصر الإيجابي
النشيط المتحرك في هذه العملية،
حتى إن القرآن نسب تكوين الإنسان
إليه في قوله تعالى: (فلينظر
الإنسان مم خلق، خلق من ماء دافق.
يخرج من بين الصلب والترائب)
فالماء الدافق هنا هو ماء الرجل.
تساؤلات
ولنا أن نسأل
هنا: لماذا يفكر رجال
العلم في نقل بويضة امرأة إلى رحم
امرأة أخرى؟
سيجيبون: لنوفر للمرأة
المحرومة من الولد، لفقدها الرحم
الصالح للحمل، ما تشتاق إليه من
الأطفال عن طريق أخرى صالحة للحمل.
ونود
أن نقول هنا: إن الشريعة تقرر
قاعدتين مهمتين تكمل إحداهما
الأخرى:
الأولى: إن الضرر
يزال بقدر الإمكان.
والثانية: إن الضرر
لا يزال بالضرر.
ونحن
إذا طبقنا هاتين القاعدتين على
الواقعة التي معنا، نجد أننا نزيل
ضرر امرأة -هي المحرومة من الحمل-
بضرر امرأة أخرى، هي التي تحمل
وتلد، ثم لا تتمتع بثمرة حملها
وولادتها وعنائها. فنحن نحل مشكلة
بخلق أخرى.
إن
على العلم أن يتواضع ولا يحسب أن
بإمكانه أن يحل كل مشكلات البشر،
فإنها لا تنتهي ولن تنتهي. ولو فرض
أنه حل مشكلة المرأة التي ليس لها
رحم صالح، فكيف يحل مشكلة التي ليس
لها مبيض صالح؟
وسؤال آخر: هل هذه هي
الطريقة الوحيدة -في نظر العلم-
لإزالة ضرر المرأة المحرومة من
الإنجاب لعدم الرحم؟
والجواب: إن العلم
الحديث نفسه بإمكانه وتطلعاته
-فيما حدثني بعض الأخوة الثقات
المشتغلين بالعلوم، والمطلعين على
أحدث تطوراتها، وتوقعاتها، يفتح
أمامنا باب الأمل لوسيلة أخرى أسلم
وأفضل من الطريقة المطروحة.
هذه
الوسيلة هي زرع الرحم نفسه في
المرأة التي عدمته، تتمة لما بدأ
به العلم ونجح فيه من زرع الكلية
والقرنية وغيرهما، بل زرع القلب
ذاته في تجارب معروفة ومنشورة.
احتمالات
ولقد
حصر الدكتور حتحوت الصورة المسئول
عنها في امرأة ذات مبيض سليم، ولكن
لا رحم لها. وهي مشوقة إلى الأولاد،
راغبة في الإنجاب، كأنه بهذا يثير
الشفقة عليها، ويستدر العطف من
أجلها.
ولكن
هذا الباب إذا فتح، ما الذي يمنع أن
تدخله كل ذات مال من ربات الجمال
والدلال، ممن تريد أن تحافظ على
رشاقتها، وأن يظل قوامها كغصن
البان، لا يغير خصرها وصدرها الحمل
والوضع والإرضاع. فما أيسر عليها
أن تستأجر "مضيفة" تحمل لها،
وتلد عنها، وترضع بدلها، وتسلم لها
بعد ذلك "ولدا جاهزا" تأخذه
بيضة مقشورة، ولقمة سائغة، لم يعرق
لها فيه جبين، ولا تعبت لها يمين،
ولا انتفض لها عرق. وصدق المثل: رب
ساع لقاعد، ورب زارع لحاصد!!
وإذا
كان مبيض الأنثى يفرز كل شهر
قمريبويضة صالحة -بعد التلقيح-
ليكون منها طفل، فليت شعري ما يمنع
المرأة الثرية أو زوجة الثري أن
تنجب في كل شهر طفلا مادام الإنجاب
لا يكلفها حملا ولا يجشمها ولادة!!
ومعنى
هذا أن المرأة الغنية تستطيع أن
تكون أما لأثنى عشر ولدا في كل سنة،
مادامت الأمومة هينة لينة لا تكلف
أكثر من إنتاج البويضة، والبركة في
"الحاضنات" أو
"المضيفات" الفقيرات اللائى
يقمن بدور الأمومة ومتاعبها لقاء
دريهمات معدودة.
ويستطيع
الرجل الثري أيضا أن يكون له جيش من
الأولاد بعد أن يتزوج من النساء
مثنى وثلاث ورباع، يمكن لكل واحدة
أن تنجب حوالي 500 خمسمائة من البنين
والبنات بعدد ما تنتج من البويضات،
طوال مدة تبلغ أو تتجاوز الأربعين
عاما من سن البلوغ إلى سن اليأس.
والنتيجة
من وراء هذا البحث أن الشريعة لا
ترتاح إلى ما سمي "شتل الجنين"
لما ذكرنا من آثار ضارة تترتب
عليه، فهو أمر مرفوض شرعا، ممنوع
فقها.
ضوابط وأحكام
بقي
أن نبين الحكم فيما إذا سار العلم
إلى نهاية الشوط ووقع هذا الأمر
بالفعل، ولم يبال رجال العلم
بمخالفة ذلك للشرائع والأخلاق.
وهنا
نستطيع أن نضع الضوابط والأحكام:
للتقليل من ضرره والتخفيف من شره:
- يجب أن تكون "الحاضنة" امرأة ذات زوج، إذ لا يجوز أن تعرض الأبكار والأيامى للحمل بغير زواج، لما في ذلك من شبهة الفساد.
- يجب أن يتم ذلك بإذن الزوج، لأن ذلك سيفوت عليه حقوقا ومصالح كثيرة، نتيجة الحمل والوضع، وإذا كان الحديث ينهى المرأة أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها، فكيف بحمل يشغل المرأة تسعة أشهر ونفاس قد يستغرق أربعين يوما؟
- يجب أن تستوفي المرأة الحاضنة العدة من زوجها، خشية أن يكون برحمها بويضة ملقحة، فلا بد أن تضمن براءة رحمها، منعا لاختلاط الأنساب.
- نفقة المرأة الحاضنة وعلاجها ورعايتها، طوال مدة الحمل والنفاس، على أب الطفل ملقح البويضة -أو وليه من بعده، لأنها تغذيه من دمها، فلا بد أن تعوض عما تفقد، وقد قال تعالى في شأن المطلقات: (وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) وقال في شأن المرضعات: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) -يعني الأب- ثم قال: (وعلى الوارث مثل ذلك).
- جميع أحكام الرضاعة وآثارها تثبت هنا من باب قياس الأولى، لأن هذا إرضاع وزيادة، إلا فيما يتعلق بزوج المرأة الحاضنة، فهناك في الرضاع يعتبر أبا لمن أرضعته أمه إذا كان اللبن من قبله، لأن التغيرات التي تحدث بجسم المرأة أثناء الحمل، وبعد الوضع من إدرار اللبن ونحوه بسبب الولد أو الجنين الذي كان لماء الرجل دخل أساسي في تكوينه.
أما زوج المرأة الحاضنة أو المضيفة فليس له أي علاقة بالجنين أو الوليد.
- إن من حق هذه الأم الحاضنة أن ترضع وليدها إن تمسكت بذلك، فإن ترك اللبن في ثديها دون امتصاص قد يضرها جسميا، كما يضرها نفسيا، وليس من مصلحة الطفل أن يجري الله له الحليب في صدر أمه، ثم يترك عمدا ليغذى بالحليب الصناعي… وقد جعل الله الرضاع مرتبطا بالولادة فقال: (والوالدات يرضعن أولادهن).
- في رأيي أن هذه الأمومة -إن حدثت- يجب أن تكون لها مزايا فوق أمومة الرضاع. ومن ذلك إيجاب نفقة هذه الأم على وليدها إذا كان قادرا واحتاجت هي إلى النفقة
تعليقات
إرسال تعليق