شروط المجتهد

  • العلم بالقرآن الكريم
  • العلم بأصول الفقه
  • العلم بالسنة
  • العلم بمقاصد الشريعة
  • العلم بالعربية
  • معرفة الناس والحياة
  • العلم بمواضع الإجماع
  • العدالة والتقوى

لا يستطيع المتهيئ للفقه أن ينال رتبة الاجتهاد إلا بشروط بعضها متفق عليه، وبعضها مختلف فيه.
أما المتفق علي، فهو ما يأتي:
1. العلم بالقرآن الكريم
فالقرآن هو كتاب الإسلام، والمصدر الأول لتشريعه وتوجيهه، وهو ـ كما قال الشاطبي ـ كلية الشريعة ـ وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر المسلمة، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) [النحل:89]. فلا بد من معرفته لأن من لم يعرف القرآن لم يعرف شريعة الإسلام.
وقد ذكر الغزالي هنا تخفيفين:
أحدهما: أنه لا يشترط معرفة جميع الكتاب، بل ما يتعلق بالأحكام منه، قال: وهو مقدار خمسمائة آية.
ووافق الغزالي على هذا التقدير القاضي ابن العربي، والرازي وابن قدامة والقرافي وغيرهم.
واعترض على الغزالي ومن وافقه هنا من عدة أوجه:
أولا: أن آيات الأحكام أكثر من ذلك، فقد نقل عن الإمام عبد الله بن المبارك تقديرها بتسعمائة آية. وقيل أكثر من ذلك.
وعلق الشوكاني على تقدير الغزالي بقوله:
"ودعوى الانحصار في هذا المقدار إنما هي باعتبار الظاهر، للقطع بأن في الكتاب العزيز من الآيات التي تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك بل من له فهم صحيح، وتقدير كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال".
"قيل: ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة على الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام".
"وقد حكى الماوردي عن بعض أهل العلم: أن اقتصار المقتصرين على العدد المذكور إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان، أفرد آيات الأحكام في تصنيف وجعلها خمسمائة آية".
ثانيا: ما ذكره العلامة القرافي من أن استنباط الأحكام إذا حقق لا تكاد تعرى عنه آية. فإن القصص أبعد شيء عن ذلك، والمقصود منها الاتعاظ.. وكل آية وقع فيها ذكر عذاب أو ذم على فعل كان ذلك دليل تحريم ذلك الفعل، وكل ما تضمن مدحا أو ثوابا على فعل، فذلك دليل طلب ذلك الفعل وجوبا أو ندبا.
وقال الطوفي الحنبلي: "قل أن يوجد في القرآن آية لا يستنبط منها شيء من الأحكام".
ثالثا: ما قاله العلامة الحنفي ابن أمير الحاج: "إن تمييز آيات الأحكام من غيرها متوقف على معرفة الجميع بالضرورة.
فهناك كثير من الموضوعات تثار في جوانب شتى من الحياة، يستدل على جوازها أو منعها من القرآن الكريم.
ومنذ سنوات حينما ثار الجدل بين بعض العلماء وبعض حول صعود الإنسان إلى القمر، كان منهم من يمنع ذلك مستندا ـ في زعمه ـ إلى الآيات التي تشير إلى حفظ السماء: (وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا) [فصلت:12].
وكان آخرون يستدلون على إمكان ذلك وجوازه شرعا بمثل قوله تعالى: (يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان) [سورة الرحمن:33].
قالوا: والسلطان هنا هو سلطان العلم!
والذين توسعوا في التفسير (العلمي) للقرآن، ومحاولة استخراج القوانين والحقائق العلمية من بين آياته، كانوا يستدلون بمثل قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) [الأنعام:38].
والإمام الغزالي حاول أن يستدل على شرعية تعلم المنطق وصحته بآيات استنبطها من القرآن العزيز.
وهذه الآيات قد لا يسلم لمن استدلوا بها على الجواز أو المنع، ولكن المجتهد عليه أن يحيط بها، ويكون له في فهمها رأي مستقل، موافق أو مخالف.
ومثل ذلك ما ثار من نحو نصف قرن حول ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى وما استشهد به المؤيدون والمعارضون من آيات تشهد لهم، وتسندهم في دعواهم، وجلها أو كلها من القرآن المكي، وهي بمعزل عن آيات الأحكام المعهودة.
والذي أرجحه: أن يكون للمجتهد اطلاع عام على معاني القرآن كله هذا مع توجيه عناية خاصة إلى الآيات التي لها صلة وثيقة بالأحكام. وهذه يلحظها المجتهد وإن كانت بين ثنايا القصص والمواعظ، ولهذا رأيناهم ذكروا في آيات الأحكام ما يؤخذ من قصة الخضر مع موسى عليه السلام، مثل جواز ارتكابه أخف الضررين تفاديا لأشدهما، ومنه خرق السفينة حتى يجدها الملك الظالم معيبة فلا يأخذها غصبا.
وما ذكره في قصة يوسف من الجعالة والكفالة: (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) [يوسف:72].
ومشروعية بعض صور الحيلة لتحقيق أغراض مشروعة، كما صنع يوسف مع أخيه.
ونحن في عصرنا نجد في قصة يوسف من الدلالة على مشروعية التخطيط الاقتصادي لمواجهة الأزمات من العمل الدائم على زيادة الإنتاج: (تزرعون سبع سنين دأبا) [يوسف:47]، وتنظيم الادخار (فما حصدتم فذروه في سنبله) [يوسف:47]، وتقليل الاستهلاك (إلا قليلا مما تأكلون) [يوسف:47]، والإشراف عليه (يأكلن ما قدمتم لهن) [يوسف:48] وهكذا.
ومثل ذلك ما نجده في قصة ذي القرنين.
والتخفيف الثاني: الذي ذكره الغزالي هنا: أنه لا يشترط فيما يطلب معرفته من الآيات حفظها عن ظهر قلب، بل يكفي أن يكون عالما بمواضعها بحيث يطلب فيها الآية المحتاج إليها في وقت الحاجة.
ولا ريب أن حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب أولى، ويجعل صاحبه أقدر على استحضار الآيات المطلوبة في موضوعه بدون معاناة تذكر، ولكن قد وجدت اليوم فهارس تعين غير الحافظ على استحضار ما يريد في موضوعه بسهولة، وحسبنا هنا "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" والفهارس الموضوعة للقرآن مثل كتاب "تفصيل آيات القرآن الكريم" وإن كان لا يشبع النهم.
معرفة أسباب النزول
ومما يدخل في العلم بالقرآن الكريم: العلم بأسباب نزوله، فإن العلم بها يلقي ضوءا على المقصود بالنص القرآني، وإن كان الراجح عند الأصوليين أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
يقول الإمام الشاطبي في "موافقاته":
"معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطب أو المخاطب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام، لفظه واحد، ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال: وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة كل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بد، ومعنى معرفة السبب هو معرفة مقتضى الحال، وينشأ عن هذا الوجه.
الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع.
ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيدة عن إبراهيم التيمي، قال: "خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد وقبلتها واحدة فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين، إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه، وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل، فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا، فإذا اختلفوا اقتتلوا، قال: فزجره عمر وانتهره، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال، فعرفه، فأرسل إليه، فقال أعد علي ما قلت، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه".. قال الشاطبي:
وما قاله صحيح في الاعتبار، ويتبين بما هو أقرب.
فقد روى ابن وهب عن بكير: "أنه سأل نافعا: كيف كان رأي ابن عمر في الحروية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين" فهذا معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.
وروى "أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس، وقال قل له: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا، لنعذبن أجمعون فقال ابن عباس: مالكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرأ: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب) إلى قوله: (ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا) [آل عمران:187،188]" فهذا السبب بين أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان.
وقد عنى المفسرون بأسباب النزول ودونوها في كتبهم، كما أفردها بعضهم بكتب خاصة مثل كتاب الواحدي، وكتاب "لباب النقول بأسباب النزول" للسيوطي.
ولكن مما ينبغي التنبيه عليه هنا: أن كثير من أسباب النزول لم تثبت صحتها وجملة الصحيح منها قليل جدا.
معرفة الناسخ والمنسوخ
ومما عنى به الأصوليون في معرفة القرآن: العلم بالناسخ والمنسوخ منه، حتى عده بعضهم شرطا مستقلا، وإنما شددوا في ذلك حتى لا يستدل بآية على حكم، وهي في الواقع منسوخة غير معمول بها!
ولا بد من التنبيه هنا على بعض الحقائق الهامة
أولا: أن بعض المؤلفين أكثروا من القول بالنسخ في القرآن، حتى قال من قال منهم أن آية السيف نسخت أكثر من مائة آية في القرآن! ويقابل هؤلاء من أنكر النسخ بالكلية في القرآن مثل أبي مسلم الأصفهاني الذي يحكي قوله الفخر الرازي في تفسيره، ويظهر منه في بعض الأحيان الميل إليه.
وبين هؤلاء وهؤلاء من توسط في الأمر، مثل السيوطي الذي أوصل الآيات المسنوخة إلى عشرين، والمتأمل فيها يجد أكثرها لا نسخ فيه.
ولهذا أوصلها الإمام الدهلوي إلى خمس آيات فقط.
ونحا الشيخ الخضري في كتابه "تاريخ التشريع" هذا النحو.
ثانيا: أن النسخ في لغة السلف أعم من النسخ في اصطلاح المتأخرين، كما نبه على ذلك كثير من المحققين مثل ابن القيم والشاطبي وغيرهما.
فقد ذكر الشاطبي في "الموافقات": أن الذي يظهر من كلام المتقدمين أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين: فقد يطلقون على تقييد المطلق نسخا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر نسخا لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد، وهو أن النسخ في الاصطلاح المتأخر اقتضى أن الأمر المتقدم غير مراد في التكليف، وإنما المراد ما جئ به آخرا، فالأول غير معمول به، والثاني هو المعمول به.
وهذا المعنى جاز في تقييد المطلق، فإن المطلق متروك الظاهر مع مقيده، فلا إعمال له في إطلاقه، بل المعمل هو المقيد، فكأن المطلق لم يفد مع مقيده شيئا، فصار مثل الناسخ والمنسوخ، وكذلك العام مع الخاص، إذ كان ظاهر العام يقتضي شمول الحكم لجميع ما يتناوله اللفظ، فلما جاء الخاص أخرج حكم ظاهر العام عن الاعتبار، فأشبه الناسخ والمنسوخ، إلا أن اللفظ العام لم يهمل مدلوله جملة، وإنما أهمل منه ما دل عليه الخاص، وبقي السائر على الحكم الأول، والمبين مع المبهم كالمقيد مع المطلق، فلما كان كذلك استسهل إطلاق لفظ النسخ في جملة هذه المعاني، لرجوعها إلى شيء واحد.
ولابد من أمثلة تبين المراد: فقد روى عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) [الإسراء:18] إنه ناسخ لقوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) [الشورى:20] وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق إذ كان قوله: (نؤته منها) مطلقا ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله في الأخرى (لمن نريد) وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ.
وقال في قوله: (والشعراء يتبعهم الغاوون) إلى قوله: (وأنهم يقولون ما لا يفعلون) هو منسوخ بقوله: (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا) الآية!
قال مكي: "وقد يذكر عن ابن عباس في أشياء كثيرة في القرآن فيها حرف الاستثناء إنه قال: (منسوخ) قال: وهو مجاز لا حقيقة، لأن المستثنى مرتبط بالمستثنى منه، بينه حرف الاستثناء أنه في بعض الأحيان الذين عمهم اللفظ الأول: والناسخ منفصل عن المنسوخ رافع لحكمه، وهو بغير حرف" هذا ما قال. ومعنى ذلك أنه تخصيص للعموم قبله، ولكنه أطلق عليه لفظ النسخ، إذ لم يعتبر فيه الاصطلاح الخاص.
وقال في قوله تعالى: (لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها) [النور:27] أنه منسوخ بقوله: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة) الآية [النور:29] وليس من الناسخ والمنسوخ في شيء، غير أن قوله: (ليس عليكم جناح) يثبت أن البيوت في الآية الأخرى إنما يراد بها المسكونة.
وقال في قوله: (انفروا خفافا وثقالا) [التوبة:41] إنه منسوخ بقوله (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) [التوبة:122] والآيتان في معنيين، ولكنه نبه على أن الحكم بعد غزوة تبوك: أن لا يجب النفير على الجميع.
وقال في قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) [الأنفال:1] منسوخ بقوله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال:41] وإنما ذلك بيان لمبهم في قوله: (لله والرسول).
والخلاصة: إن أكثر ما أطلقوا عليه "الناسخ والمنسوخ" يدخل في باب: العام والخاص، أو المطلق والمقيد، أو المبهم والمبين ونحو ذلك، فيجب على المجتهد أن يكون على علم به. فلا يفتي بأن كل مطلقة مثلا عدتها "ثلاثة قروء" أخذا بقوله تعالى في سورة البقرة: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة:228] غافلا عن قوله تعالى في سورة الطلاق: (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن وأولات الأحمال..) (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) [الطلاق:4] فهذه خصصت تلك بغير الآيسات والصغيرات وذوات الأحمال.. وهكذا.
2. العلم بالسنة
والشرط الثاني: العلم بالسنة ـ ونعني بها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير. ولم يشترطوا العلم بجميع ما جاء في السنة، فهي بحر زاخر، وإنما اشترطوا معرفة الأحاديث التي تتعلق بالأحكام فلا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ والقصص وأحكام الآخرة ونحوها.
قال الغزالي: "وهي ـ وإن كانت زائدة على ألوف فهي محصورة".
وقال الشوكاني:
"واختلفوا في القدر الذي يكفي المجتهد من السنة، فقيل: خمسمائة حديث وهذا من أعجب ما يقال! فإن الأحاديث التي تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة".
وقال ابن العربي في "المحصول" هي ثلاثة آلاف.
وقال أبو علي الضرير لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتي؟ يكفيه مائة ألف؟ قال: لا، قلت ثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قلت: أربعمائة ألف؟ قال:لا، قلت: خمسمائة ألف؟ قال: أرجو.
قال الزركشي: "وكأن مراده بهذا العدد آثار الصحابة والتابعين وطرق المتون" ولهذا قال: "من لم يجمع طرق الحديث لم يحل له الحكم ولا الفتيا".
قال بعض أصحابه: هذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتيا أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء، فأما ما لابد منه، فقد قال أحمد رحمه الله الأصول التي يدور عليه العلم عن النبي لله ينبغي أن تكون ألفا ومائتين.
والواقع يوجب على المجتهد أن يكون واسع الاطلاع على السنة كلها وإن وجه مزيد اهتمام إلى أحاديث الأحكام، فقد توجد أحاديث بعيدة عن مجال الأحكام في الظاهر، ولكن الفقيه يستنبط منها من الأحكام ما قد يفوت غيره.
وأيا كان القدر المطلوب للمجتهد، فلا يلزم ـ كما قاله الغزالي وغيره أن يحفظه عن ظهر قلب، مثل حفاظ الحديث الذين عرفهم تاريخ العلم عندنا، وإن كان هذا أفضل وأكمل.
ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب، فيراجعه وقت الحاجة إلى الاجتهاد أو الفتوى، وقد يساعد في هذا كتب الفهارس اللفظية والموضوعية وكتب الأطراف وغيرها.
واكتفى الغزالي أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبي داود، و"معرفة السنن" لأحمد البيهقي، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام.
وتبع الغزالي على ذلك الرافعي، ونازعه النووي، وقال: "لا يصح التمثيل بسنن أبي داود، فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام ولا معظمها، وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود"
وكذا قال ابن دقيق العبد: التمثيل بسنن أبي داود عندنا ليس بجيد لوجهين:
الأول: أنها لا تحوي السنن المحتاج إليها.
الثاني: أن في بعضها ما لا يحتج به في الأحكام.
والوجه الثاني يحتمل أن بعض أحاديث أبي داود في غير مجال الأحكام، كما يحتمل أنها لا تبلغ مرتبة الصحة أو الحسن المحتج به في الأحكام، وكلا الأمرين ثابت ومعترف به.
ماذا يعني العلم بالسنة؟
والعلم بالسنة يعني فيما يعني عدة أمور:
أولا: علم دراية الحديث: وقد جعله الغزالي شرطا مستقلا، وحقه أن يكون داخلا في شرط معرفة السنة.
والمراد بذلك كما قال الغزالي: معرفة الرواية، وتمييز الصحيح منها عن الفاسد والمقبول عن المردود، فإن مالا ينقله العدل عن العدل فلا حجة فيه، والتحقيق فيه:أن كل حديث يفتى به مما قبلته الأمة، فلا حاجة به إلى النظر في إسناده. وإن خالفه بعض العلماء، فينبغي أن يعرف رواته وعدالتهم، فإن كانوا مشهورين عنده، كما يرويه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر مثلا، اعتمد عليه. فهؤلاء قد تواتر عند الناس عدالتهم وأحوالهم، والعدالة إنما تعرف بالخبرة والمشاهدة، أو بتواتر الخبر فما نزل عنه فهو تقليد، وذلك بأن يقلد البخاري ومسلما في أخبار الصحيحين، وإنهما ما رووها إلا عمن عرفوا عدالته، فهذا مجرد تقليد، وإنما يزول التقليد بأن يعرف أحوال الرواة بتسامع أحوالهم وسيرهم، ثم ينظر في سيرهم أنها تقتضي العدالة أم لا، وذلك طويل، وهو في زماننا مع كثرة الوسائط عسير. والتخفيف فيه: أن يكتفي بتعديل الإمام العدل بعد أن عرفنا أن مذهبه في التعديل مذهب صحيح فإن المذاهب مختلفة فيما يعدل به ويجرح، فإن من مات قبلنا بزمان امتنعت الخبرة والمشاهدة في حقه، ولو شرط أن تتواتر سيرته فذلك لا يصادف إلا في الأئمة المشهورين، فيقلد في معرفة سيرته عدلا فيما يخبر، فيقلد في تعديله، بعد أن عرفنا صحة مذهبه في التعديل، فإن جوزنا للمفتي الاعتماد على الكتب الصحيحة التي ارتضى الأئمة رواتها قصر الطريق على المفتي، وإلا طال الأمر، وعسر الخطب في هذا الزمان، مع كثرة الوسائط، ولا يزال الأمر يزداد شدة بتعاقب الأعصار.
والخلاصة: أنه لا بد للمجتهد من العلم بأصول الحديث وعلومه، والاطلاع على علم الرجال، وشروط القبول، وأسباب الرد للحديث، ومراتب الجرح والتعديل، وغيرها مما يتضمنه علم المصطلح، ثم تطبيق ذلك على ما يستدل به من الحديث.
ثانيا: معرفة الناسخ والمنسوخ من الحديث: حتى لا يحكم بحديث قد ثبت نسخه وبطل العمل به، كالأحاديث التي رويت في جواز "نكاح المتعة" فقد ثبت نسخها بأحاديث أخرى.
قال الغزالي: "والتخفيف في ذلك، أن يعلم أن ذلك الحديث ليس من جملة المنسوخ".
وقد ألفت كتب في ذلك، ما بين متوسع في النسخ، ومضيق فيه، ومتوسط فيه، ومن أشهرها كتاب الحازمي "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار".
وكما أن كثيرا مما قيل بنسخه في القرآن ليس بمنسوخ حقيقة، كذلك ما قيل بنسخه في السنة ليس بمنسوخ.
من ذلك ما ذكروه في حديث سلمة بن الأكوع في الصحيح وهو حديث: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي، فكلوا وأطعموا وادخروا" فقد قيل: إن النهي عن الادخار نسخ وبطل حكمه بقوله في الحديث: "وادخروا" وقيل: إنه ليس من باب النسخ، بل من باب نفي الحكم لانتفاء علته، وقد جاء في بعض روايات الحديث بيان علة النهي بقوله: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت" يعني الجماعة التي وفدت على المدينة من خارجها في عيد الأضحى. لهذا أنكر الإمام القرطبي في التفسير أن يكون ذلك من باب النسخ، قائلا: "بل هو حكم ارتفع لارتفاع علته، لا لأنه منسوخ، وفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته، لا لأنه منسوخ، وفرق بين رفع الحكم بالنسخ، ورفعه لارتفاع علته، فالمرفوع بالنسخ لا يحكم به أبدا، والمرفوع بارتفاع علته يعود بعود العلة..الخ".
وعندي: أن مثل من معرفة الناسخ والمنسوخ معرفة "مختلف الحديث" أي الأحاديث المتعارضة الظواهر، وكيف يؤولها ويوفق بينها: بتقييد مطلقها وتخصيص عامها.. إلى غير ذلك من وسائل الجمع أو الترجيح، وقد كتب في ذلك ابن قتيبة كتابه "تأويل مختلف الحديث". والطحاوي كتابه "مشكل الآثار" وتعرض لذلك سائر الفقهاء في مواضع متناثرة، وبخاصة الإمام الشافعي فهو أول من عنى بذلك.
ومثل ذلك بل أهم منه التوفيق بين الحديث والقرآن، فالسنة إنما جاءت مبينة للقرآن لا معارضة له.
ومن هنا يلزم المجتهد أن يجمع الأحاديث الواردة والثابتة في موضوعه، ويتدبر العلاقة بينها، فيبين عامها بخاصها، ويحمل مطلقها على مقيدها، ويوضح مجملها بمفصلها، ومبهمها بمفسرها، كما يربطها بالأًصل الأول: القرآن الكريم، ولا يضرب النصوص بعضها ببعض.
ثالثا: معرفة أسباب ورود الحديث
وإذا كانت معرفة أسباب نزول القرآن لازمة لمن يريد فهم القرآن، فإن معرفة أسباب ورود الحديث ألزم لمن يريد فهم السنة، لأن القرآن بطبيعته عام لكل الأحوال والأمكنة والأزمنة، أما السنة فكثيرا ما تأتي لعلاج قضايا خاصة وأوضاع معينة، يتغير الحكم بتغيرها، مثال ذلك حديث جابر عن الشيخين: "سموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي"، فظاهره النهي عن تكنية أحد بـ "أبي القاسم" في كل مكان وزمان. ولكن روى البخاري عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق، فقال رجل: يا أبا القاسم، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنما دعوت هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "سموا باسمي..الحديث".
فهذا الحديث يدل على أن النهي مقصور على زمنه صلى الله عليه وسلم وحتى لا يحدث التباس عند الدعاء ونحوه، ولهذا تكنى كثير من العلماء والصلحاء بـ "أبى القاسم" طول العصور الإسلامية، ولم يجدوا في ذلك حرجا ولم ينكر عليهم أحد.
وإنما يعرف ذلك بالرجوع إلى مصادر الحديث الأصلية فإن المختصرات كثيرا ما تذكر الحديث مبتورا عن سببه وملابسة وروده.
وقد حاول بعض المتأخرين جمع هذا النوع في مؤلف خاص كما في كتاب "البيان والتعريف في أسباب ورود الحديث الشريف" لإبراهيم بن محمد كمال الدين الشهير بابن حمزة الحسيني وقد طبع في جزأين، ولكنه لا يغني عن مراجعة المصادر الأصلية.
تنبيهات
وأود أن أنبه هنا على جملة أمور:
أولا: علق الشوكاني على الذين فرطوا في اشتراط السنة للمجتهد، واكتفوا له بخمسمائة حديث، والذين أفرطوا، فاشترطوا خمسمائة ألف حديث، أي ألف ضعف بالنسبة للقول الأول! قال: "ولا يخفاك أن كلام أهل العلم في هذا الباب بعضه من قبيل الإفراط وبعضه من قبيل التفريط، والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة أن المجتهد لا بد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التي صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق بها، مشرفا على ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات والكتب التي التزم مصنفوها الصحة، ولا يشترط في هذا أن تكون محفوظة له مستحضرة في ذهنه، بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم على الحديث بأحد الأوصاف المذكورة، وليس من شرط ذلك أن يكون حافظا لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث في كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح ومالا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها وما هو مردود، وما هو قادح من العلل وما هو غير قادح".
ثانيا: أن الأحاديث التي لها تعلق بالأحكام، قد جمعت في بعض المؤلفات ما بين مختصر ومطول.
منها: كتاب "عمدة الأحكام" للحافظ المقدسي، وقد اقتصر فيه على الصحيحين وحدهما، وقد شرحه الإمام ابن دقيق العبد، في كتاب "الأحكام" وكتب الصنعاني عليه حاشية "العدة" وبلغت أحاديثه 419 حديثا.
ومنها كتاب "الأحكام" لعبد الحق الأشبيلي، ولكنه لا يزال مخطوطا، ولابن القطان تعليق واستدراك عليه.
ومنها: "الإلمام بأحاديث الأحكام" لابن دقيق العبد، وفيه جمع (1417) من الأحاديث.
ومنها: "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" للحافظ ابن حجر العسقلاني، وقد بلغت أحاديثه 1596 (ستة وتسعين وخمسمائة وألف حديث) "ط صبيح بتعليق محمد حامد الفقي" وشرحه العلامة الصنعاني في "سبل السلامِ".
ومنها: "منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار" لأبي بركات مجد الدين عبد السلام بن تيمية الجد. وقد بلغت أحاديثه في الطبعة التي حققها المرحوم الشيخ محمد حامد الفقي 5029 (خمسة آلاف وتسعة وعشرين حديثا) ولكنه عد كل رواية لحديث فيها تغيير كلمة أو جملة أو زيادة لفظه، حديثا ذا رقم مستقل.
وقد شرح هذا المنتقى العلامة الشوكاني في كتابه الشهير "نيل الأوطار". وقد أصبح هو وكتاب "سبل السلام" من أهم المصادر لأحاديث الأحكام وشروحها.
ومنها: "شرح معاني الآثار" لحافظ الحنفية أبي جعفر الطحاوي.
ومنها: "السنن الكبرى" للحافظ البيهقي، وقد طبع في عشرة مجلدات كبار وهو يستدل فيه لمذهب الشافعي، وقد علق عليه ابن التركاني الحنفي، وتعقبه في بعض المواضع، وسمى تعليقه "الجوهر الفقي" وهو مطبوع معه في حاشيته.
ثالثا: من النافع هنا: مراجعة كتب التخريج لأحاديث الأحكام، مثل "نصب الراية لأحاديث الهداية" للحافظ الزيلعي الحنفي، وقد لخصه الحافظ ابن حجر في "الدراية" وأضاف إليه فوائد.
ومنها: "تلخيص الحبير، في تخريج شرح الرافعي الكبير" لابن حجر أيضا، لخص فيه تخريجات الحفاظ والنقاد قبله لما جاء في شرح الرافعي على "وجيز الغزالي" من أحاديث، وزاد عليها، وذكر في مقدمته: أنه يشمل جل ما يستدل به الفقهاء في كتبهم من الأحاديث. وقد بلغت أحاديثه 2161 حديث، في الطبعة التي علق عليها السيد محمد هاشم اليماني.
وفي عصرنا خرج الشيخ الألباني أحاديث "منار السبيل" في الفقه الحنبلي في كتاب من ثمانية أجزاء أسماه "إرواء الغليل".
ولابن الجوزي كتاب "التحقيق في أحاديث التعليق" تكلم فيه على الأحاديث التي يذكرها الفقهاء عادة في كتبهم معلقة. وقد نقحه ابن عبد الهادي وبين أوهام ابن الجوزي، وأضاف إليه فوائد وسمى كتابه "تنقيح التحقيق". والكتابان لا يزالان مخطوطين فيما أعلم.
3. العلم بالعربية
ولابد للمجتهد أن يكون عالما بالعربية، بمعنى أن يعرف اللغة وعلومها معرفة تيسر له فهم خطاب العرب، وذلك أن القرآن الكريم قد نزل بلسان عربي مبين والسنة قد نطق بها رسول عربي، وهذا يخص السنة القولية، والسنة الفعلية والتقريرية قد نقلها أصحابه، وهم عرب من أهل الفصاحة والبيان.
فكان لابد أن يعرف من اللغة والنحو ـ كما قال الإمام الغزالي ـ القدر الذي يفهم به خطاب العرب وعادتهم في الاستعمال، إلى حد يميز به بين صريح الكلام وظاهره ومجمله، وحقيقته ومجازه، وعامه وخاصه، ومحكمه ومتشابهه، ومطلقه ومقيده، ونصه وفحواه، ولحنه ومفهومه.
قال الغزالي: والتخفيف فيه أنه لا يشترط أن يبلغ درجة الخليل والمبرد وأن يعرف جميع اللغة، وأن يتعمق في النحو، بل القدر الذي يتعلق بالكتاب والسنة ويستولي به على مواقع الخطاب، ودرك حقائق المقاصد منه.
لابد للمجتهد إذن من معرفة معاني المفردات ودلالاتها، حتى يكون استنباط الحكم منها صحيحا وكثيرا ما يؤدي الاختلاف في تفسير معاني الكلمات سببا في اختلاف الفقهاء في الأحكام المأخوذة منها.
فقوله تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) [البقرة:228] تقتضي من المجتهد أن يبذل جهده لتحديد معنى (القرء) في الآية، أهو الحيض أم الطهر؟
والنصوص التي وردت في الرضاعة والإرضاع في القرآن مثل قوله تعالى: (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) [سورة النساء:23] وكذلك ما ورد من ذلك في الحديث: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" "إنما الرضاعة من المجاعة" الخ، لا يعرف الحكم المستنبط منها إلا بتحديد معنى الرضاعة والرضاع والإرضاع أهو مجرد وصول اللبن إلى الجوف، ولو عن طريق الوجور في الحلق أو السقوط في الأنف، أم هو امتصاص اللبن من الثدي بطريق الفم والالتقام؟
والتفريق في مصارف الزكاة بين (لام) الجر و(في) في آية التوبة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل) [التوبة:61] لابد أن يكون لمعنى وهدف.
ومثل ذلك قوله تعالى: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) [المائدة:6]، علام تدل (الباء) في (برؤوسكم)؟ أهي زائدة والمطلوب مسح الرأس كله؟ أم هي للإلصاق فيكون المطلوب جزءا من الرأس وهو ما قدره الحنفية بالربع؟ أم هي للتبعيض فيكفي شعرات للمسح؟
ولابد للمجتهد من معرفة دلالات الجمل، ما كان منها على سبيل الحقيقة وما كان على سبيل المجاز أو الكناية، ودلالات التقديم والتأخير والحذف والحصر، وغيرها مما يشمله علم المعاني والبيان.
فقوله تعالى: (أو لامستم النساء) يحتمل أن يراد به الحقيقة، كما هو مذهب الشافعي، وهو مجرد لمس البشرة للبشرة، وأن يكون كناية عن الجماع، كما قال ابن عباس: "إن اللمس والملامسة والمس في القرآن كناية عن الجماع" وهو ما تدل عليه الاستعمالات القرآنية بالفعل.
وكذلك لابد للمجتهد من إتقان علم النحو والصرف، حتى يفهم في ضوئه قراءة مثل قراءة: (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين)، بخفض (أرجلكم) بطريق المجاورة كما هو معروف.
وفي قوله سبحانه: (ويسألونك عن المحيض، قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله) [البقرة:222] يتحدد الحكم بتحديد معنى (المحيض) هل هو مصدر ميمي بمعنى (الحيض) أو اسم مكان بمعنى (موضوع الحيض) ولكل من المعنيين أثره.
وكذلك الفرق بين (يطهرن) بالتخفيف وبين (يطهرن) بالتشديد كما يتضح ذلك بالرجوع إلى التفاسير المعنية بآيات الأحكام.
وذكر الشوكاني في هذا الشرط للمجتهد: أن يكون عالما بلسان العرب بحيث يمكنه تفسير ما ورد في الكتاب والسنة من الغريب ونحوه، قال ولا يشترط أن يكون حافظا لها عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يكون متمكنا من استخراجها من مؤلفات الأئمة المشتغلين بذلك، وقد قربوها أحسن تقريب، وهذبوها أبلغ تهذيب، ورتبوها على حروف المعجم ترتيبا لا يصعب الكشف عنه، ولا يبعد الاطلاع عليه، وإنما يتمكن من معرفة معانيها وخواص تركيبها، وما اشتملت عليه من لطائف المزايا، من كان عالما بعلم النحو والصرف والمعاني والبيان، حتى يثبت له في كل فن من هذه ملكة يستحضر بها كل ما يحتاج إليه عند وروده عليه، فإنه عند ذلك ينظر في الدليل نظرا صحيحا، ويستخرج منه الأحكام استخراجا قويا. ومن جعل المقدار المحتاج إليه من هذه الفنون هو معرفة مختصراتها أو كتاب متوسط من المؤلفات الموضوعة فيها فقد أبعد، بل الاستكثار من الممارسة لها، والتوسع في الاطلاع على مطولاتها، مما يزيد المجتهد قوة في البحث، وبصرا في الاستخراج، وبصيرة في حصول مطلوبه، والحاصل أنه لابد أن تثبت له الملكة القوية في هذه العلوم، وإنما تثبت هذه الملكة بطول الممارسة، وكثرة الملازمة لشيوخ هذا الفن. قال الإمام الشافعي: "يجب على كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما يبلغه جهده في أداء فرضه" قال الماوردي: "ومعرفة لسان العرب فرض على كل مسلم من مجتهد وغيره".
وهذا يدلنا على مدى الارتباط العضوي بين الإسلام والعربية، فالعربية هي لسان الإسلام، ووعاء ثقافته، ولا سبيل إلى فهم الإسلام فهما صحيحا بغير تذوق العربية وإتقانها، ومن ثم أوجب الشافعي على كل مسلم تعلم ما يمكنه من ذلك ما استطاع، وفقا للإمكانات المتاحة لمثله في بيئته وثقافته، فكيف بمن يريد بلوغ مرتبة الاجتهاد في فقه الشريعة وأحكامها؟!
ومقتضى كلام الشوكاني أنه يشترط للمجتهد في الأحكام أن يبلغ درجة الاجتهاد في العربية وعلومها، وهو ما صرح به الشاطبي، على حين اكتفى الآخرون بتحصيل بعض المختصرات!
قال العلامة محمد الخضر حسين:
"وقد يقع في خاطرك أن شرط الاجتهاد في اللسان العربي يجعل رتبة الاجتهاد في الشريعة بمنزلة المتعذر، فإنه يقتضي أن يسلك الفقيه في البحث عن معاني الألفاظ وأحكامها ووجوه بلاغتها الطرق التي سلكها أئمة تلك العلوم، ولا يكفيه أن يأخذ من القاموس أن النكاح مثلا يطلق على الوطء والعقد، ومن كتاب سيبويه أن الخفض يكون بالجوار ومن دلائل الإعجاز أن تقديم المعمول أو تعريف المسند يفيد القصر، حتى يتتبع كلام العرب نفسه، ويقف على صحة إطلاق النكاح على الوطء والعقد، ويظفر بشواهد كثيرة يحقق بها قاعدة الخفض بالجوار، وشواهد أخرى يعلم بها أن تقديم المعمول أو تعريف الطرفين يفيد الحصر، وتكليفه بأن يبلغ في علوم اللغة هذه الغاية يشبه التكليف بما لا تسعه الطاقة.
وجواب هذا: أن المجتهد في الشريعة لابد له من أن يرسخ في علوم اللغة رسوخ البالغين درجة الاجتهاد، وله أن يرجع في أحكام الألفاظ ومعانيها إلى رواية الثقة وما يقوله الأئمة، وإذا وقع نزاع في معنى أو حكم توقف عليه فهم نص شرعي تعين عليه حينئذ بذل الوسع في معرفة الحق بين ذلك الاختلاف، ولا يسوغ له أن يعمل على أحد المذاهب النحوية أو البيانية في تقرير حكم إلا أن يستبين له رجحانه بدليل.
والذي أؤكده أن المهم هنا أن يحس المجتهد من نفسه أنه أصبح قادرا على تذوق كلام العرب وفهمه، والغوص على معانيه، بمثل ما كان عليه العربي الأول بسليقته وسلامة فطرته، قبل أن يستعجم الناس، ويفسد اللسان والذوق، وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد في اللغة وعلومها. فهذا قد يصعب، فالتخفيف الذي ذكره الإمام الغزالي مقبول بهذا التفسير الذي فسره شيخنا الأكبر محمد الخضر حسين رحمه الله.
4. العلم بمواضع الإجماع
ويأتي بعد ذلك العلم بمواضع الإجماع، حتى لا يفتى بخلاف الإجماع، كما يلزمه معرفة النصوص، حتى لا يفتى بخلافها.
قال الغزالي: "والتخفيف في هذا الأصل: أن لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتى فيها، فينبغي أن يعلم أن فتواه ليس (كذا) مخالفا للإجماع، إما بأن يعلم أنه موافق مذهب من مذاهب العلماء، أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة في العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض، فهذا القدر فيه كفاية".
وعلى هذا، لا تحتاج المسائل الجديدة التي هي من مستحدثات عصرنا، مثل "نقل الدم" أو "زرع الأعضاء" المنقولة من الحي إلى الحي، أو من جثة ميت، ووصية بعض الناس بالانتفاع بجزء من بدنه، أو بجثته كلها لخدمة الغير أو الإنعاش الطبي المكثف لمريض فقد وعيه وإحساسه العصبي، أو ما يسمونه "شتل الجنين" أو "الرحم الظئر" أو "بنوك الأجنة المجمدة" أو "التحكم في جنس الجنين" أو استخدام الأشعة أو الذرة في السلم أو الحرب، ونحو ذلك مما لم يعرفه الأولون، ولم يخطر ببالهم، لا تحتاج هذه القضايا إلى البحث عن معرفة رأي أهل الإجماع فيها.. إذ ليس لهم فيها رأي.
والمهم هنا أن يثبت الإجماع بيقين لا شك فيه، فإذا استيقن المجتهد الإجماع في مسألة، فليوفر على نفسه عناء الاجتهاد، فقد فرغت منها الأمة التي أبى الله أن يجمعها على ضلالة.
وهذه المواضع الإجماعية في فقهها هي التي تجسم الوحدة الفكرية والسلوكية للأمة وتحفظها من عوامل التشتت والتمزق.
فإذا أجمعت الأمة على حل حلي الذهب للنساء، ولم يختلفوا إلا في زكاتها فلا مجال لمخالفة هذا الإجماع الذي نقله غير واحد وأقرته جميع المذاهب المتبوعة، واستقر عليه الفقه المتصل بعمل الأمة خلال أربعة عشر قرنا، في أقطار الإسلام كافة.
ومن هنا يكون اجتهاد الشيخ الألباني الذي خرج به في رسالته في "الزفاف" وأعلن به تحريم "الذهب المحلق" على النساء، اجتهادا مرفوضا، لأنه خالف الإجماع المتيقن.
ومثل ذلك: اجتهاد بعض الباحثين المعاصرين في إباحة زواج المسلمة بالكتابي قياسا على زواج المسلم بالكتابية.
وهو اجتهاد مرفوض كذلك، لإجماع المسلمين في كل العصور ومن جميع المذاهب على تحريمه، واستقرار عمل الأمة عليه طوال قرون، بالإضافة إلى عموم قوله تعالى في سورة الممتحنة: (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار، لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن).
تنبيهات مهمة حول الإجماع
وأحب أن أنبه هنا إلى عدة أمور:
1. إن هذا الشرط إنما يشترطه من يقول بحجية الإجماع، ويرى أنه دليل شرعي كما نبه على ذلك الشوكاني فأما من يقول بعدم إمكانه، أو بعدم وقوعه أو بعدم العلم به، أو بعدم حجيته، فلا موضع لهذا الشرط عنده.
2. إنه قلما يلتبس على من بلغ رتبة الاجتهاد ما وقع عليه الإجماع من مسائل الفقه، كما قال الشوكاني، وقد جمعتهما بعض الكتب المختصرة مثل "مراتب الإجماع" لابن حزم، و"الإجماع" لابن المنذر.
3. إن كثيرا مما ادعى فيه الإجماع من مسائل الفقه قد ثبت فيه الخلاف، وقد لمست هذا بنفسي، وأنا أبحث في "فقه الزكاة" في عدد من المسائل، وهذا ما جعل الإمام أحمد يقول كلمته المشهورة: "من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه، لعل الناس اختلفوا وهو لا يدري".
ومن ذلك: اختيارات شيخ الإسلام ابن تيمية ومدرسته في مسائل "الطلاق الثلاث" والحلف بالطلاق، أي الطلاق الذي يراد به الحمل على شيء أو المنع منه وغير ذلك مما أخذت به قوانين الأسرة في كثير من البلاد الإسلامية، وتبناه الجم الغفير من علماء العصر، إنقاذا للأسرة المسلمة من التفكك والانهيار الذي هددها قرونا، ساد فيها الاتجاه القائل بالتوسع في إيقاع الطلاق حتى ادعى فيه الإجماع.. ومثل ذلك "قانون الوصية الواجبة" الذي أخذ به بناء على مذهب بعض السلف في العمل بآية البقرة، وإنها محكمة غير منسوخة: (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين) [البقرة:180].
4. أن من الإجماع ما يقبل الإبطال بإجماع جديد. وذلك فيما بنى الإجماع فيه على عرف تبدل، أو مصلحة زمنية تغيرت، لأن المصلحة المذكورة هي علة الحكم، والمعلول يدور مع علته وجودا وعدما.
صحيح أن الجمهور منعوا ذلك، لأن كون الإجماع حجة يقتضي امتناع حصول إجماع آخر مخالف له، وجوزه أبو عبدالله البصري، وقال: إنه لا يقتضي ذلك، لإمكان تصور كونه حجة إلى غاية، هي حصول إجماع آخر، قال الصفي الهندي: ومأخذ أبي عبدالله قوي، وقال الرازي: وهو الأولى. وكذلك ذكر العلامة البزدوي: أن الإجماع الاجتهادي يجوز أن ينسخ بمثله. وينبغي حمل كلام الجمهور في عدم الجواز على الإجماع النقلي، أي المبني على دليل نقلي من كتاب أو سنة، فإن الإجماع الثاني لا يتصور إلا بحدوث دليل جديد من كتاب أو سنة، وهو غير ممكن بعد انقطاع الوحي.
5. أن بعض مواضع الإجماع النقلي ذاته قابلة للاجتهاد إذا كان النص مبنيا على رعاية عرف معين أو مصلحة معينة، فتبدل العرف أو تغيرت المصلحة.
مثال ذلك: إجماعهم على أن للزكاة نصابين متفاوتين: أحدهما من الذهب والآخر من الفضة، بناء على ما صح من أحاديث، وما ورد من آثار، بأن للفضة نصابا هو مائتا درهم، وللذهب نصابا هو عشرون دينارا، أو عشرون مثقالا.
وذلك أن هذا الإجماع مبني على عرف قائم في عصر النبوة، وهو وجود عملتين متداولتين في المجتمع، إحداهما من الدراهم الفضية القادمة من فارس والأخرى من الدنانير الذهبية الواردة من دولة الروم، وكان الدينار حينئذ يصرف بعشرة دراهم، فقدر النصاب بمبلغين متساويين في القيمة وقتها.
ولكن الوضع تغير، وخاصة في عصرنا، فأصبحت قيمة النصاب إذا قدر بالفضة دون نصاب الذهب بمراحل. فاقتضى الاجتهاد الصحيح توحيد النصاب، واعتباره بالذهب، لأنه وحدة التقدير التي احتفظت بثباتها النسبي على مر العصور.
وقد أدخل بعض الباحثين هنا ـ مع شرط العلم بمواضع الإجماع ـ العلم بمواضع الخلاف، لما لها من أهمية في تكوين ملكة الفقه والاطلاع على مداركه، ومسالك الاستنباط فيه.
ورأيي أن هذا يدخل في شرط آخر مختلف فيه، وهو معرفة فروع الفقه وهل هي لازمة أو لا؟ وسنعرض لذلك فيما بعد.
Example Post Template

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

((سورة القيامه سؤال وجواب

الاسرار فى التكرار لاعظم سورة فى القرأن الكريم (الفاتحه)

الباب الثالث مجالات العبادة في الإسلام