هل العبادة مجرد وسيلة لتهذيب النفس؟
وهناك
دعوة خبيثة شريرة يروجها بعض
الملحدين المستكبرين عن عبادة
الله، فتجد هؤلاء يستغلون ما جاء
به الدين نفسه من رد العبادة
السطحية المرائية التي لا تنفذ
إلى القلب، ولا تزكي النفس، ولا
تنهي عن فحشاء أو منكر ـ يستغلون
هذا ليقولوا: إن الغرض من
الأديان وعقائدها وعباداتها
إنما هو إصلاح النفس وتربية
الضمير، واستقامة الخلق.. فإذا
وصلنا إلى هذه النتيجة بأي وسيلة
أخرى كالتهذيب النفسي المجرد،
والتربية الأخلاقية المدنية،
فلسنا بحاجة إلى العبادة
والشعائر والصلوات والمناسك،
فإنما هذه وسائل لا غايات، وقد
انتهينا إلى الغاية التي يريدها
الله منا، فما تشبثنا بالوسيلة
وما حاجتنا إليها؟
هذه
هي الدعوة الجاحدة الماكرة التي
ذهب إليها بعض المتفلسفين قديما
وبعض المنحرفين حديثا، وهي دعوة
باطلة يراد بها باطل.
أما
أنها دعوة باطلة، فلأن العبادة
مطلوبة لذاتها، وغاية في نفسها،
بل هي ـ كما أوضح القرآن ـ مراد
الله من خلق المكلفين إنسا وجنا،
بل هي الغاية وراء خلق السموات
والأرض (الله الذي خلق سبع سموات
ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر
بينهن لتعلموا أن الله على كل
شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل
شيء علما) (وما خلقت الجن والإنس
إلا ليعبدون) والمقصود الأول من
العبادة ـ كما ذكرنا ـ هو أداء حق
الله عز وجل.
المقصود
بالعبارة أن يعرف الإنسان نفسه
فقيرا لا حول ولا قوة له إلا
بربه، ولا اعتماد له إلا عليه،
ولا قيام له بذاته، ويعرف ربه
عليا كبيرا، غنيا عن العالمين
(يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى
الله والله هو الغني الحميد، إن
يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد، وما
ذلك على الله بعزيز).
إظهار
العبودية لرب العالمين، وامتثال
أمره سبحانه فيما تعبد به خلقه
هو علة العبادات كلها من صلاة
وصيام، وزكاة وحج وتلاوة ذكر
ودعاء واستغفار واتباع للشريعة،
والتزام بأحكام الحلال والحرام،
أما صلاح النفس وزكاة الضمير
واستقامة الأخلاق، فهي ثمرة
لازمة للعبادة الحقة، وليست على
غائية لها، لهذا قال تعالى:
(اعبدوا ربكم لعلكم تتقون) (كتب
عليكم الصيام كما كتب على الذين
من قبلكم لعلكم تتقون).
فالتعبير
بـ "لعل" هنا التي تفيد
الترجي ـ دون التعبير بلام
التعليل أو "كي" ـ يفيد أن
العبادة أو الصيام تجعلهم على
رجاء التقوى وتعدهم لها.
وحتى
لو ذكر التعليل صريحا ما أفاد
ذلك ترك العبادة إذا لم تؤد إلى
التقوى، وإنما تفيد إعادة النظر
في العبادة وإحسانها حتى تؤتي
أكلها من تقوى الله وخشيته، ولو
فرضنا أن قلنا لفلاح: ازرع
لتحصد، فزرع ولم يحصد الحصاد
المرجو، لتقصيره في بعض ما كان
واجبا عليه أن يرعاه، لم يكن
معنى ذلك أن نقول له: أترك الزرع
والغرس، مع أنه مهمته التي لا
وظيفة له غيرها، وكل ما يقال له:
ابذل جهدا أكثر، ووف عملك حقه من
الإتقان، لتحصل على ثمرة أفضل.
وهذا
ما أجاب به الرسول الكريم صلى
الله عليه وسلم حين ذكروا له
قوما يصلون ولكنهم يقومون بأمور
لا تليق بمن يقيم الصلاة فقال
لهم: إن صلاتهم ستنهاهم!!
ولو
أن إنسانا صلى الصلوات الخمس أو
صام رمضان مثلا ولم يقصد في ذلك
إلا تزكية نفسه، وتربية خلقه،
دون الالتفات إلى حق الله عليه،
والقيام بواجب العبودية له جل
شأنه، ما كانت هذه الصلاة وذاك
الصيام إلا عادة من العادات لا
يؤبه لها في ميزان الحق، ولا
تحظى بذرة من القبول عند الله.
ذلك
أن للعبادة ـ كما قال الإمام
الشاطبي ـ مقصدا أصليا ومقاصد
تابعة، فالمقصد الأصلي فيها هو
التوجه إلى الواحد المعبود،
وإفراده بالقصد إليه في كل حال:
ويتبع ذلك قصد التعبد لنيل
الدرجات في الآخرة أو ليكون من
أولياء الله تعالى وما أشبه ذلك،
ومن المقاصد التابعة للعبادة
صلاح النفس، واكتساب الفضيلة.
قال
الشاطبي: فالصلاة مثلا، أصل
مشروعيتها الخضوع لله سبحانه،
بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب
على قدم الذلة والصغار بين يديه،
وتذكير النفس بالذكر له، قال
تعالى: (وأقم الصلاة لذكري) وقال:
(إن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر ولذكر الله أكبر) ـ يعني
أن اشتمال الصلاة على التذكير
بالله أكبر وأعظم من نهيها عن
الفحشاء والمنكر، لأن ذكر الله
هو المقصود الأصلي ـ وفي الحديث
"إن المصلي يناجي ربه".
"ثم
إن لها مقاصد تابعة كالنهي عن
الفحشاء والمنكر، والاستراحة
إليها من أنكاد الدنيا، كما في
الخبر: "أرحنا بها يا بلال"
وفي الصحيح "وجعلت قرة عيني في
الصلاة". وإنجاح الحاجات
كصلاة الاستخارة وصلاة الحاجة،
وطلب الفوز بالجنة والنجاة من
النار، وهي الفائدة العامة
الخالصة، وكون المصلي في خفارة
الله وفي الحديث: "من صلى
الصبح لم يزل في ذمة الله" .
ونيل أشرف المنازل قال تعالى:
(ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى
أن يبعثك ربك مقاما محمودا)
فأعطى بقيام الليل المقام
المحمود".
"وكذلك
سائر العبادات لها فوائد أخروية
وهي العامة، وفوائد دنيوية، وهي
كلها تابعة للفائدة الأصلية،
وهي الانقياد والخضوع لله".
ولا
حرج على المؤمن أن يطلب بعبادته
الفوائد الأخروية من الفوز
بالجنة والنجاة من النار، فإن
هذا داخل تحت معنى الرجاء في
مثوبة الله، والخشية من عذابه،
وهو ضرب من العبودية لرب
العالمين، والخوف والرجاء بهذا
المعنى لا يقدح في الإخلاص لله ـ
كما بيناه من قبل.
أما
الفوائد الدنيوية فلا يجوز أن
تكون الباعث الوحيد للعبادة،
سواء كانت مادية أم معنوية.
وقد
أنكر الراسخون من العلماء ما كان
يشيع في رحاب التصوف وبين بعض
أتباعه ومريديه من التعبد بقصد
تجريد النفس، وتصفيتها من
الشواغل والعلائق، لتكون أهلا
للاطلاع على عالم الأرواح ورؤية
الملائكة، وخوارق العادات، ونيل
الكرامات، والحصول على العلم
(اللدني) الموهوب من لدن الله..
وما أشبه ذلك.
أنكروا
هذا وقالوا: إنه خروج عن طريق
العبادة، وتخرص على عالم الغيب،
ويزيد بأن جعل عبادة الله وسيلة
إلى ذلك، وهو أقرب إلى الانقطاع
عن العبادة، لأن صاحب هذا القصد
داخل ـ بوجه ما ـ تحت قوله تعالى:
(ومن الناس من يعبد الله على حرف
فإن أصابه خير اطمأن به وإن
أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر
الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران
المبين). كذلك هذا، إن وصل إلى ما
طلب فرح به وصار قصده من التعبد،
فقوي في نفسه مقصوده وضعفت
العبادة.
وإن
لم يصل رمى بالعبادة، وربما كذب
بنتائج الأعمال التي يهبها الله
لعباده المخلصين، وقد روي أن بعض
الناس سمع بحديث: "من أخلص لله
أربعين صباحا ظهرت ينابيع
الحكمة من قلبه على لسانه"
فتعرض لذلك لينال الحكمة، فلم
يفتح له بابها. فبلغت القصة بعض
الفضلاء، فقال: هذا أخلص للحكمة
ولم يخلص الله!
والخلاصة
أن كل دعوة تغفل المقصد الأصلي
في العبادات وتهيل تراب النسيان
عليه، وتشيد بالمقاصد الفرعية
التابعة، وتسلط الأضواء عليها
وحدها، هي دعوة باطلة، لأنها
تضاد القصد الأول من العبادة، بل
القصد الأول من الدين، بل القصد
الأول من خلق الناس، بل من خلق
السموات والأرض.
وأما
ما وراء هذه الدعوة من أغراض
خبيثة، فإن أربابها يبطنون
إلحادا وكفرا واستكبارا على
الله، واستنكافا عن عبادته،
ويخفون ذلك تحت ستار التحمس
للأخلاق المجردة، والفضيلة
الذاتية، كما يخفي السم الزعاف
في الحلو والدسم، فما أجدر هؤلاء
بوعيد الله: (إن الذين يستكبرون
عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين)
(ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر
فسيحشرهم إليه جميعا، فأما
الذين آمنوا وعملوا الصالحات
فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من
فضله، وأما الذين استنكفوا
واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما
ولا يجدون لهم من دون الله وليا
ولا نصيرا).
وما
أجدر هؤلاء المتكبرين على الله
أن يحرموا من نور الهداية إلى
الحق، واستبانة طريق الرشد، فإن
الكبر يعمي ويصم، وصدق الله:
(سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون
في الأرض بغير الحق، وإن يروا كل
آية لا يؤمنوا بها، وإن يروا
سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا، وإن
يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا،
ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا
عنها غافلين).
إن
الله تعالى ليس في حاجة إلى
عبادة أحد من خلقه، فهو سبحانه
غني عن العالمين، وعباد الله
ليسوا قليلين، فالكون كله يعبد
الله بلغة نجهلها نحن البشر
(تسبح له السموات والأرض ومن
فيهن، وإن من شيء إلا يسبح
بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم)
وحسبنا من العقلاء العابدين
الملائكة في السموات السبع وفي
كل مكان: (لا يستكبرون عن عبادته
ولا يستحسرون، يسبحون الليل
والنهار لا يفترون) فأين موضع
هؤلاء الذين حسبوا أنفسهم كبراء
على عبادة الله؟) (فإن استكبروا
فالذين عند ربك يسبحون له بالليل
والنهار وهم لا يسأمون).
إننا
لا ننكر أن للخلق والضمير مكانة
أي مكانة في الإسلام، وأن الخلق
مقوم أصيل من مقومات الشخصية
الإسلامية، وأن أبرز ما أثنى به
الله على محمد رسوله: (وإنك لعلى
خلق عظيم) وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم قال في بعض أحاديثه:
"إنما بعثت لأتمم مكارم
الأخلاق".
لا
ننكر شيئا من هذا، وإنما الذي
ننكره أن يقال: إن عبادة الله ما
هي إلا أداة ـ مجرد أداة ـ لتربية
ما أسموه الضمير، وليست هي
الأداة الوحيدة، بل ليست الأداة
المفضلة في نظر هؤلاء!
إننا
ننكر أن يقوم فضل إنسان فلا يجعل
لعبادة الله وزن في تقويمه
وتقديره، وهذا ما حذر منه الرسول
صلى الله عليه وسلم وتنبأ به حين
قال: "يأتي على الناس زمان
يقال للرجل فيه: ما أظرفه! ما
أعقله! ما أجلده! وما في قلبه
مثقال حبة من إيمان"
إننا
نقرأ القرآن وهو يرسم صورة
تفصيلية للشخصية المؤمنة، فنجد
العبادة أول معلم واضح فيها، ففي
سورة المؤمنون يقول سبحانه: (قد
أفلح المؤمنون، الذين هم في
صلاتهم خاشعون، والذين هم عن
اللغو معرضون، والذين هم للزكاة
فاعلون، والذين هم لفروجهم
حافظون، إلا على أزواجهم أو ما
ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين،
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون، والذين هم لأماناتهم
وعهدهم راعون، والذين هم على
صلواتهم يحافظون)
فانظر
كيف جعل أول أوصافهم الخشوع في
الصلاة وآخر أوصافهم المحافظة
عليها، ووصفهم بفعل الزكاة وهي
عبادة، مع الفضائل الخلقية
الأخرى.
وفي
سورة المعارج: (إن الإنسان خلق
هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، وإذا
مسه الخير منوعا، إلا المصلين
الذين هم على صلاتهم دائمون،
والذين في أموالهم حق معلوم،
للسائل والمحروم والذين يصدقون
بيوم الدين، والذين هم من عذاب
ربهم مشفقون، إن عذاب ربهم غير
مأمون والذين هم لفروجهم
حافظون، إلا على أزواجهم أو ما
ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين،
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم
العادون، والذين هم لأماناتهم
وعهدهم راعون، والذين هم
بشهاداتهم قائمون، والذين هم
على صلاتهم يحافظون).
فهنا
أيضا بدأ بالصلاة وختم بها،
وأضاف إليها التصديق بيوم
الدين، والإشفاق من عذاب الله،
بجوار الصفات الخلقية الأخرى.
وقد
يبرز القرآن أحيانا جانب
العبادة، وأحيانا جانب الأخلاق،
لمناسبات واعتبارات توجب هذا
الإبراز، ففي سورة الذاريات نجد
العناية بالعبادة في وصف
المتقين (إنهم كانوا قبل ذلك
محسنين، كانوا قليلا من الليل ما
يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون،
وفي أموالهم حق للسائل
والمحروم).
وفي
سورة الرعد نجد العناية بالجانب
الأخلاقي في وصف أصحاب العقول:
(إنما يتذكر أولو الألباب الذين
يوفون بعهد الله ولا ينقضون
الميثاق والذين يصلون ما أمر
الله به أن يوصل ويخشون ربهم
ويخافون سوء الحساب، والذين
صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا
الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا
وعلانية ويدرءون بالحسنة
السيئة، أولئك لهم عقبى الدار).
ومع
أن معظم الأوصاف هنا أخلاقية ـ
لمناسبة أولى الألباب ـ مثل
الوفاء والصلة والصبر والإنفاق،
لكن الملحوظ فيها أنها ليست مجرد
أخلاق (مدنية) وإنما هي أخلاق
(ربانية) أو (دينية). أخلاق فيها
معنى العبادة والتقوى، فهم إنما
يوفون (بعهد الله) وإنما يصلون
(ما أمر الله) به أن يوصل. وهم
إنما يفعلون ويتركون لأنهم
(يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب)
وهم إنما يصبرون (ابتغاء وجه
ربهم) فهم في كل أخلاقهم وسلوكهم
يرجون الله، ويرجون اليوم الآخر.
ومن
أراد الإنصاف والإصلاح فلينهج
نهج القرآن الحكيم، حيث ينظم
العقائد والعبادات والأخلاق
والأعمال الطيبة كلها في سلك
واحد ينتظم منه عقد جميل، هو
صفات المؤمن البار التقي.
نجد
ذلك فيما ذكرناه من آيات في سور
شتى، وفي غيرها من السور
"لوحات" كثيرة تصور لنا
المؤمنين الصادقين، نكتفي منها
باثنتين:
الأولى: قوله تعالى
(ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل
المشرق والمغرب ولكن البر من آمن
بالله واليوم الآخر والملائكة
والكتاب والنبيين وآتي المال
على حبه ذوي القربى واليتامى
والمساكين وابن السبيل
والسائلين وفي الرقاب وأقام
الصلاة وآتي الزكاة والموفون
بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في
البأساء والضراء وحين البأس
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم
المتقون).
جمعت
الآية لهم بين العقيدة التي
تتجلى في الإيمان بالله وما بعده
وبين العمل الذي يتجلى في إيتاء
المال على حبه وإقامة الصلاة
وإيتاء الزكاة، وبين الأخلاق
التي تتجلى في الوفاء والصبر.
والثانية: قوله تعالى:
(وعباد الرحمن الذين يمشون على
الأرض هونا وإذا خاطبهم
الجاهلون قالوا سلاما والذين
يبيتون لربهم سجدا وقياما،
والذين يقولون: ربنا اصرف عنا
عذاب جهنم إن عذابها كان غراما،
إنها ساءت مستقرا ومقاما. والذين
إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا
وكان بين ذلك قواما. والذين لا
يدعون مع الله إلها آخر ولا
يقتلون النفس التي حرم الله إلا
بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك
يلق آثاما. يضاعف له العذاب يوم
القيامة ويخلد فيه مهانا، إلا من
تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك
يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان
الله غفورا رحيما. ومن تاب وعمل
صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا،
والذين لا يشهدون الزور وإذا
مروا باللغو مروا كراما. والذين
إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا
عليها صما وعميانا. والذين
يقولون: ربنا هب لنا من أزواجنا
وذرياتنا قرة أعين واجعلنا
للمتقين إماما. أولئك يجزون
الغرفة بما صبروا ويلقون فيها
تحية وسلاما) وهي باقة جمعت كل
الأوصاف الطيبة، وأغنت عن كل
تعليق.
وخلاصة
ما نقوله هنا: أن العبادة عند
المؤمن نوع من الأخلاق، لأنها من
باب الوفاء لله، والشكر للنعمة،
والاعتراف بالجميل، والتوقير
لمن هو أهل التوقير والتعظيم،
وكلها من مكارم الأخلاق عند
الفضلاء من الناس.
ومن
أجل ذلك نجد القرآن يعقب على
أوصاف المؤمنين القانتين
المطيعين لله بمثل هذه الجمل:
(أولئك الذين صدقوا) (أولئك هم
الصادقون) والصدق فضيلة خلقية
خالصة، وإنما استحقوها ـ بل جعلت
عليهم ـ لأن أعلى مراتب الصدق،
وأثبتها وأبقاها هو الصدق مع
الله رب العالمين.
وإذا
كانت العبادة عند المؤمن لونا من
الأخلاق المحمودة، فالأخلاق
عنده لون من العبادة المفروضة.
فهي
ـ كما ذكرنا ـ أخلاق ربانية،
باعثها الإيمان بالله، وحديها
الرجاء في الآخرة، وغرضها رضوان
الله ومثوبته، فهو يصدق الحديث،
ويؤدي الأمانة، ويفي بالعهد،
ويصبر في البأساء والضراء وحين
البأس، ويغيث اللهيف، ويعين
الضعيف، ويرحم الصغير، ويوقر
الكبير، ويرعى الفضيلة في
سلوكه، كل ذلك ابتغاء وجه ربه،
وطلبا لما عنده تعالى، وقد تلونا
في ذلك آيات من القرآن، ونكتفي
هنا بما وصف الله به الأبرار من
عباده من البذل والرحمة
والإيثار، إذ قال: (ويطعمون
الطعام على حبه مسكينا ويتيما
وأسيرا) ثم يكشف القرآن عن حقيقة
بواعثهم، وطوايا نفوسهم، فيقول
معبرا عن لسانهم: (إنما نطعمكم
لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا
شكورا، إنا نخاف من ربنا يوما
عبوسا قمطريرا).
ثم
إن أخلاق المؤمن عبادة من ناحية
أخرى، هي أن مقياسه في الفضيلة
والرذيلة، ومرجعه فيما يأخذ وما
يدع هو أمر الله ونهيه.
فالضمير
وحده ليس بمعصوم، وكم من أفراد
وجماعات رضيت ضمائرهم بقبائح
الأعمال.
والعقل
وحده ليس بمأمون، لأنه محدود
بالبيئة والظروف، ومتأثر
بالأهواء والنزعات، وفي
الاختلاف الشاسع للفلاسفة
الأخلاقيين في مقياس الحكم
الخلقي دليل واضح على ما نقول.
والعرف
لا ثبات له ولا عموم، لأنه يتغير
من جيل إلى جيل، وفي الجيل
الواحد من بلد إلى بلد، وفي
البلد الواحد من إقليم إلى
إقليم.
لذلك
التجأ المؤمن إلى المصدر
المعصوم المأمون الذي لا يضل ولا
ينسى، ولا يتأثر ولا يجور، وذلك
هو حكم الله (ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون)
وخلاصة
الخلاصة: أن المؤمن لا يعبد الله
ليكون بذلك فاضلا، ولكنه يكون
فاضلا ليعبد بذلك الله، وبينها
فارق لو يعلمون عظيم!
Example Post Template
تعليقات
إرسال تعليق