اسرة القطاوى (مكه المكرمه)
ذكر قصة بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقصة في الصحيحين - وفيها : أن أول ما نزل عليه : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ إلى قوله مَا لَمْ يَعْلَمْ الآيات من 1 إلى 5 من سورة العلق . . ثم أنزل عليه يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ الآيات من 1 إلى 7 من سورة المدثر . .
- ص 34 -فمن فهم أن هذه أول آية أرسله الله بها : عرف أنه سبحانه أمره أن ينذر الناس عن الشرك الذي يعتقدون أنه عبادة الأولياء ليقربوهم إلى الله قبل إنذاره عن نكاح الأمهات والبنات . وعرف أن قوله تعالى : وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أمر بالتوحيد قبل الأمر بالصلاة وغيرها . وعرف قدر الشرك عند الله وقدر التوحيد .
فلما أنذر صلى الله عليه وسلم الناس ، استجاب له القليل . وأما الأكثر : فلم يتبعوا ولم ينكروا ، حتى بادأهم بالتنفير عن دينهم وبيان نقائصه وعيب آلهتهم . فاشتدت عداوتهم له ولمن تبعه . وعذبوهم عذابًا شديدًا ، وأرادوا أن يفتنوهم عن دينهم .
فمن فهم هذا عرف أن الإسلام لا يستقيم إلا بالعداوة لمن تركه وعيب دينه ، وإلا لو كان لأولئك المعذَّبين رخصة لفعلوا .
ومن أشهر ذلك : قصة عمه أبي طالب لما حماه بنفسه وماله وعياله وعشيرته . وقاسى في ذلك الشدائد العظيمة . وصبر عليها ، ومع ذلك كان مصدقًا له ، مادحا لدينه ، محبا لمن اتبعه ، معاديًا لمن عاداه ، لكن لم يدخل فيه . ولم يتبرأ من دين آبائه ، واعتذر عن ذلك بأنه لا يرضى بمسبة آبائه . ولولا ذلك لاتبعه . ولما مات - وأراد النبي صلى الله عليه وسلم الاستغفار له - أنزل الله عليه : مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ الآية 113 من سورة براءة . . - ص 35 -فيا لها من عبرة ما أبينها ! ومن عظة ما أبلغها ! ومن بيان ما أوضحه ! لما يظن كثير ممن يدعي اتباع الحق فيمن أحب الحق وأهله ، من غير اتباع للحق ، لأجل غرض من أغراض الدنيا . ما وقع أيضا : قصته صلى الله عليه وسلم معهم - لما قرأ سورة النجم بحضرتهم - فلما وصل إلى قوله : أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى الآيتان رقم 19 ، 20 من سورة النجم . ألقى الشيطان في تلاوته : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى . وظنوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ، ففرحوا بذلك فرحا شديدا ، وتلقاها الصغير والكبير منهم ، وقالوا كلاما معناه : هذا الذي نريد ، نحن نقر أن الله هو الخالق الرازق ، المدبر للأمور ، ولكن نريد شفاعتها عنده . فإذا أقر بذلك فليس بيننا وبينه أي خلاف . واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها ، فلما بلغ السجدة سجد وسجدوا معه . وشاع الخبر : أنهم صافوه ، حتى إن الخبر وصل إلى الصحابة الذين بالحبشة ، فركبوا بالبحر راجعين لظنهم أن ذلك صِدْق . فلما ذُكِر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : خاف أن يكون قاله . فخاف من الله خوفا عظيما ، حتى أنزل الله عليه : وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ إلى قوله عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ الآيات من 52 إلى 55 من سورة الحج . . - ص 36 -فمن عرف هذه القصة وعرف ما عليه المشركون اليوم وما قاله ويقوله علماؤهم ، ولم يميز بين الإسلام الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم ، وبين دين قريش الذي أرسل الله رسوله ينذرهم عنه ، وهو الشرك الأكبر : فأبعده الله . فإن هذه القصة في غاية الوضوح ، إلا من طبع الله على قلبه وسمعه . وجعل على بصره غشاوة ، فذلك لا حيلة فيه ، ولو كان من أفهم الناس ، كما قال الله تعالى في أهل الفهم الذين لم يوفقوا : وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ
أن ناسا من المسلمين لم يهاجروا ، كراهة مفارقة الأهل والوطن والأقارب ، فهو قول الله تعالى : قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ آية 24 من سورة براءة . . فلما خرجت قريش إلى بدر : خرجوا معهم كرها . فقتل بعضهم بالرمي ، فلما علم الصحابة : أن فلانا قتل ، وفلانا قتل ، تأسفوا على ذلك وقالوا : قتلنا إخواننا . فأنزل الله تعالى فيهم : إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ إلى قوله : وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا الآيات من 97 إلى 100 من سورة النساء . . فليتأمل الناصح لنفسه هذه القصة ، وما أنزل الله فيها من الآيات . فإن أولئك لو تكلموا بكلام الكفر ، وفعلوا كفرًا ظاهرًا يُرضون به قومهم : لم - ص 38 -يتأسف الصحابة على قتلهم . لأن الله بين لهم - وهم بمكة - لما عذبوا قوله تعالى : مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ من الآية 106 من سورة النحل . . فلو سمعوا عنهم كلاما أو فعلا يرضون به المشركين من غير إكراه ، ما كانوا يقولون : " قتلنا إخواننا " . ويوضحه قوله تعالى : قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ولم يقولوا : كيف عقيدتكم ؟ أو كيف فعلكم ؟ بل قالوا : في أي الفريقين كنتم ؟ فاعتذروا بقولهم : كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ فلم تكذبهم الملائكة في قولهم هذا ، بل قالوا لهم أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ويوضحه قوله إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا الآيتان رقم 98 ، 99 من سورة النساء . . فهذا في غاية الوضوح . فإذا كان هذا في السابقين الأولين من الصحابة فكيف بغيرهم ؟ ولا يفهم هذا إلا من فهم أن أهل الدين اليوم لا يعدونه ذنبا . فإذا فهمت ما أنزل الله فهما جيدا . وفهمت ما عند من يدعي الدين اليوم ، تبين لك أمور : - ص 39 -منها : أن الإنسان لا يستغني عن طلب العلم . فإن هذه وأمثالها : لا تعرف إلا بالتنبيه . فإذا كانت قد أشكلت على الصحابة قبل نزول الآية ، فكيف بغيرهم ؟ ومنها : أنك تعرف أن الإيمان ليس كما يظنه غالب الناس اليوم ، بل كما قال الحسن البصري - فيما روى عنه البخاري : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال . نسأل الله أن يرزقنا علما نافعا ، ويعيذنا من علم لا ينفع . قال عمر بن عبد العزيز : يا بني ليس الخير أن يكثر مالك وولدك ، ولكن الخير أن تعقل عن الله ، ثم تطيعه . |
تعليقات
إرسال تعليق