لماذا يحب الله عباده
- لقد اختص الله عز وجل الإنسان لنفسه من بين سائر مخلوقات كما جاء في الأثر: يا ابن آدم خلقت كل شيء لك وخلقتك لنفسي، فلا تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له.
وإن كانت العلاقة بين الأب وأبنائه تتسم بالحب والحنان والرحمة والحرص الدائم على مصلحتهم، فإن علاقته سبحانه بالبشر أسمى وأسمى, إنها علاقة الرب بعباده الذين أوجدهم من العدم ونفخ فيهم من روحه.
علاقة الخالق بالمخلوق الذي اختصه لنفسه فهو يحبه ويريد له الخير، والنجاح في مهمته العظيمة.
ومن عجب أن الملائكة الأطهار الكرام لما علمت بمنزلة البشر عند الله جعلت جزءًا من عبادتها دعاءها لهم وهي بذلك تريد التقرب إليه سبحانه وتطمع في نيل رضاه ]وَالْمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ[[الشورى: 5].
ويزداد تقربهم وتوددهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء لمن لهم حب خاص وولاية خاصة عنده]الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ`رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ`وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[[غافر: 7- 9].
ويزداد ويزداد لأحب الخلق إليه ]إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ[[الأحزاب: 56].
مباهاته بعباده
ومما يؤكد علاقته – سبحانه – الخاصة بعباده البشر الموحدين له: مباهاته بهم الملائكة عند قيامهم بطاعته.
خرج يومًا على حلقة من أصحابه فقال: «ما أجلسكم؟» قالوا: جلسنا نذكر الله، ونحمده على ما هدانا للإسلام، ومنَّ به علينا. قال: «آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟» قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك قال: «أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن الله يباهي بكم الملائكة»( رواه مسلم (2701)).
وانظر إليه وهو يحدث أصحابه عن صورة أخرى من صور هذه المباهاة فيقول: «إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا غبرًا»( صحيح، رواه ابن حبان والحاكم وصححه الألباني في ص. ج (1867)).
مع أنه سبحانه -يقينًا- لا تنفعه طاعة الطائعين مهما بلغت، ولا تضره معصية العاصين مهما عظمت، وما مباهاته وفرحه بطاعات عباده إلا لأنه يحبهم ويريد لهم الخير.
وما إخبارهم بتلك المباهاة في أكثر من موضع على لسان رسول الله إلا رسالة حب منه لهم لعلها تزيدهم إقبالا عليه وحبًا له وشوقًا إلى لقائه.
ضحكه سبحانه
ومن مظاهر العلاقة المميَّزة بين الله تعالى وعباده وبخاصة الطائعين منهم: ضحكه سبحانه عندما يرى عباده يخلصون أعمالهم له، ويضحون من أجله.
عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي قال: «ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم، ويستبشر بهم: الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه لله عز وجل، فإما أن يُقتل وإما أن ينصره الله ويكفيه، فيقول: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟, والذي له امرأة حسنة وفراش لين حسن، فيقوم من الليل، فيقول: يذر شهوته ويذكرني، ولو شاء رقد، والذي كان في سفر، وكان معه ركب، فسهروا، ثم هجعوا، فقام من السحر في ضراء وسراء»( حسن، رواه الطبراني في الكبير وقال إسناده حسن وقال عنه الهيثمي: رجاله ثقات، وحسنه، الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (624).).
ومما يؤكد هذا المعنى قوله : «يعجب ربك من راعي غنم، في رأس شظية بجبل، يؤذن للصلاة، ويصلي، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة، يخاف مني، قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة»( صحيح الجامع الصغير (8102).).
قدر المؤمن عند الله
إن الجسد الذي خلقه الله عز وجل ونفخ فيه نفخة علوية له حرمة عظيمة عنده سبحانه ويكفيك في ذلك قوله تعالى: ]أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا[[المائدة: 32].
وهذا يؤكد مكانة الإنسان الخاصة عند الله عز وجل، وتزداد هذه المكانة كلما كان الإنسان أطوع لله عز وجل, قال : «لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق»( صحيح الجامع (5077).).
يكره سبحانه مساءة عبده المؤمن
تأمل معي أخي القارئ قول الله عز وجل في الحديث القدسي:«وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأنا أكره مساءته، ولا بد له منه»( رواه البخاري (6502)).
يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول: فبيَّن سبحانه أنه يتردد (عن قبض نفس عبده المؤمن) لأن التردد تعارض إرادتين، وهو سبحانه يحب ما يحبه عبده، ويكره ما يكرهه، وهو يكره الموت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره مساءته) وهو سبحانه قد قضى بالموت، فهو يريد له أن يموت، فسمى ذلك ترددًا، ثم بين أنه لابد من وقوع ذلك(التحفة العراقية/ 43).
فرحه – سبحانه – بتوبة العاصين
أرأيت لو أن ابنًا قد شرد بعيدًا عن أبيه، وسار في طريق الفساد، ثم عاد إلى رشده وارتمى في حضن أبيه, أي فرحة يكون عليها الأب في هذا الوقت؟!
هذه الفرحة لا تساوي شيئًا بجوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف في ذنبه ولجَّ في طغيانه.
تأمل معي الحديث الذي يؤكد فيه هذا المعنى بقوله:«والله، لله أشد فرحًا بتوبة عبده من رجل كان في سفر، في فلاة من الأرض فأوى إلى ظل شجرة فنام تحتها، واستيقظ فلم يجد راحلته، فأتى شرفًا فصعد عليه، فلم ير شيئًا، ثم أتى آخر، فأشرف فلم ير شيئًا، فقال: أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه، فأكون فيه حتى أموت، فذهب، فإذا براحلته تجر خطامها، فالله أشد فرحًا بتوبة عبده من هذا براحلته»( رواه مسلم).
مراده أن تدخل الجنة
عندما يقرأ المرء الأخبار السابقة، وبخاصة ما يتعلق بفرح الله عز وجل العظيم بتوبة عبد من عباده فمن المتوقع أن تقفز إلى الذهن بعض التساؤلات عن أسباب هذا الفرح فالله عز وجل لا تنفعه هذه التوبة بشيء، فهو الغنى الحميد, فلماذا هذه الفرحة إذن؟
من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن الله عز وجل اختص الإنسان لنفسه دون خلقه جميعًا، وأنه يريد منه أن ينجح في امتحان العبودية ليُدخله الجنة, فمراده سبحانه من جميع البشر دخول جنته ]وَاللهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ[ [البقرة: 221].
مراده أن يعود الجميع إليه ليكرمهم وينعمهم في دار أعدها خصيصًا لهم، وجعل لكل منهم فيها جزءًا مقسومًا، وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه في تلك الدار، ويتبوأ منزله فيها ]وَاللهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ[[يونس: 25] وفي نفس الوقت فهو لا يريد أن يُدخل أحدًا من عباده النار]وَلاَ يَرْضَى لِعِبَادِهِ
الْكُفْرَ[[الزمر: 7].
هذا الأمر ينطبق على جميع البشر في مشارق الأرض ومغاربها، وفي كل العصور والأزمان.. عباد الصليب.. عباد البقر.. الملحدين والوثنيين.. كل هؤلاء يريد الله منهم أن يدخلوا الجنة، ويكفيك في هذا أنه سبحانه وتعالى يمهل هؤلاء وغيرهم من الكافرين، ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة, مع قدرته المطلقة عليهم وإحاطته التامة بهم، فلو شاء أن يهلكم لأي ذنب يفعلونه لأهلكهم، لكنه لا يفعل، بل يحلم ويصبر ويمهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم.
معنى ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إلا لأنه يأبى ويصر على ألا يدخل الجنة كما قال : «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّة إلاَّ مَنْ أَبَى»( صحيح البخاري ج (6737).).
نعم، هذه هي الحقيقة التي يغفل عنها البشر «كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير على أهله»( صحيح الجامع (4570).).
ومثال ذلك ما حدث لأصحاب القرية التي كذبت الرسل فأصابهم العذاب بعد طول إمهال ليأتي التعقيب القرآني ليؤكد أنهم هم الذين أبوا إلا العذاب ]يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ[[يس:30].-
تعليقات
إرسال تعليق