الفصــــل الرابـــــع : من أسباب انحسار خُلُق تبني هموم الناس
باب الرابع
أولاً: السبب العقيدي
ثانيًا: السبب التربوي
ثالثًا: السبب التصوري
رابعًا: السبب الفقهي
خامسًا: السبب الواقعي
الاستبداد *
الفرقة *
واقع الأمة المعاصر، نتاج ترسبات كثيفة، عقيدية، وتصورية، وتربوية، واجتماعية، وسياسية... تمت عبر أزمنة تاريخية، يمكن تشبيهها بالأزمنة الجيولوجية، التي تتم خلالها الترسبات الجيولوجية على سطح الأرض.. وفهم واقعنا المعاصــر، لا يمــكن بالتــالي، أن يتـم، إلا بقراءة هذه الترسبات، والوقوف على تفرعاتها، واستجلاء أسبابها، حتى يصبح تجاوزها ممكنًا، عبر معالجة لها دقيقة، في تجزئ، ضمن شمول وتكامل.
لقد دَلَفَتْ أُمَّتُنا، إلى واقع القَصعة، الذي أَنْذَرَناه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم(1) عَبر حِقَب متتالية، وبفعل عوامل متعددة، لعل من أهمها : انحسار خُلُق، تبنِّي هموم الناس من الأمة.. ومن هُنا، فإن بحث هذه المشكلة، ينبغي أن يؤطره، وعي قوي، بأن ثمة عوامل أخرى، أدت إلى اضمحلال قوى الأمة، وتَرَهُّل بنيتها، حتى لا نسقط في أحادية المدخل، التي من أقل سلبياتها : اختزال مشاكل الأمة، في مشكل واحد.. وبناء على هذا، فإن هدف هذا الفصل، هو محاولة قراءة الترسبات، التي أدت إلى انحسار التكافل، والتآزر، والتعاون، والشفاعة الحسنة، والتضحية في سبيل الله، والمستضعفين من واقعنا، وذلك عن طريق عرض أهم الأسباب، التي أدت إلى ذلك، وتتبع آثارها.
أولاً : الســـــبب العقــيدي
إن التشريع في الدين الإسلامي، مبني -كما لا يخفى- على الاعتقادات، وهذا سبب كون سمة القرآن المكي الغالبة، هي بناء العقيدة، وجدانيًا، وعقليًا، تمهيدًا للتشريع، الذي كان هو سمة القرآن المدني الأبرز.. فموضوع القرآن المكي الأساس هو: (حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما، وتعريف الناس بربهم الحق، الذي ينبغي لهم أن يدينوا له، ويعبدوه، ويتبعوا أمره، وشرعه، وتنحية ما أُدخل على العقيدة الفطرية الصحيحة، من غَبش، ودَخَن، وانحراف، والْتواء، ورَدّ الناس إلى إلههم الحق، الذي يستحق الدينونة، لربوبيته )(2).
وإنما كان التركيز، في القرآن المكي، على العقيدة، لأنها القضية الكبرى الأساسية، في دين الإسلام، (فالأخلاق لا تقوم، إلا على أساسٍ من عقيدةٍ، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة، التي تستند إليها هذه الموازين، والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين، وإنه قبل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة، تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق، التي تقوم عليها متأرجحة، كذلك، بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء... هذا جانب من سر هذا الدين، وطبيعته... يحدد منهجه في بناء نفسه، وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة، وتمكينها، وشمول هذه العقيدة، واستغراقها، لشعاب النفس كلها، ضرورة من ضروات النشأة الصحيحة، وضمانًا من ضمانات الاكتمال والتناسق )(3) بين الظاهر في عالم المعاملات، والكامن في عالم الاعتقادات، والقناعات، والتصورات، ولكنها حقيقة، قد غفل عنها المسلمون..
وقد أدت هذه الغفلة، إلى اضطرابات جسيمة في واقعهم، بسبب روم طوائف من أبناء الأمة، الذين اختطفهم عالم الأشياء، وأذهلهم عن كينونة أمتهم، تطبيق مناهج نهضوية، لا تبدأ من هذا المبتدأ.. و(خمول جماهير الشعب، يمكن التغلب عليه، إذا كان راجعًا، إلى مجرد التجنب الفطري للكد، وبذل الجهد، والتعرض للخطر، وليس بالإمكان التغلب عليه، إذا كان يعبر عن الرفض، لنفسِ المثلِ الأعلى للكفاح، لكونه مضادًا، لصميم إرادة عامة الشعب، وإحساساتهم... إن الشعوب الإسلامية، لن تقبل أبدًا، بأي شيء، يخالف الإسلام مخالفة صريحة، ذلك لأن الإسلام، ليس مجرد فكرة وقانون، فقد أصبح الإسلام في نفوس هذه الشعوب، محبة وشعورًا، وإن كل من خرج على الإسلام، كائنًا من كان، فلن يحصد غير الكراهية والمقاومة )(4).
ولهذا السبب، بقيت كل المشاريع النهضوية المطروحة، عالقة، وأصيبت الأمة بالخمول، من جَرَّاء لا مبالاة، وعدم اكتراث الشعوب، مما ضَيَّع جهودًا، وهَدَر مقدراتٍ، الأمَّةُ اليوم في أمس الحاجة إليها... إنه الذهول عن شاكلة بنية الأمة، ومبتدأ نشأتها، وطبيعة عجنتها... إنه الذهول عن الأساس العقيدي، (وتفصيل ذلك: أنه عقب اختفاء النموذج الإسلامي للوجود السياسي -على تدهوره في أخريات أيامه، والذي كانت تعبر عنه، بشكل أو بآخر في المشرق، الدولةُ العثمانية - برزت الدولة المحدثة، التي شكلت قطيعة حادة، مع الوظيفة العقيدية، في جوهرها النقي، نتيجة لتبنيها العملي، لمبدأ العلمانية اللادينية، وتطبيقه في كافة أمورها السياسية، داخليًا، وخارجيًا، ومع ذلك، فإن مضمون الوظيفة، وجوانبها، وأبعادها المضيعة، ترسبت في الوعي، والذاكرة الجمعية، لفئات، أو طوائف الأمة، ليشكل رصيدًا وعنصرًا ثابتًا، على مستوى العقيدة، والقيم، وكسلوك فردي، وجماعي، وإن كان لا يجد تعبيره السياسي، وأبعاده النظامية، في الوقت الراهن )(5).
ومن هنا فإنني أرى، مع د. حامد عبد المجيد القويسي، صدق رأي من ذهبوا إلى أن (الدولة المحدثة) في البلاد الإسلامية، نتاج عملية التحديث، على النمط الأوروبي، الأمر الذي جعل منها إطارًا فوقيًا، مركبًا على قمة المجتمع، يحكمه، وهو منفصل عنه.. وهي أيضًا محدثة، لأنها تشكل انحرافًا، أو ابتداعًا في عقيدة المجتمع الأساسية والسائدة، والتي كان ينبغي للدولة، أن تكون أداة، ووسيلة لتحقيقها، في الواقع(6).
فالأمة انبثقت، من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأُطُر العامة، التي يُهتدى بها، في عملية تأسيس البناء، فهذه العقيدة، هي التي وضعت مبادئ النظم، وقواعدها، وحددت مجالات الممارسة، والحركة، لتكون الدولة نتاجًا، ومحصلة طبيعية، لهذا المجتمع العقيدي، ومن ثم كان من البديهي، أن تلتزم الدولة، بأساس وجودها العقيدي، الذي قام عليه المجتمع، واستقام على طريقته، ويعني هذا، أن تجعل الدولة غايات حركتها وممارستها السياسية، نابعة من الغايات، التي تحددها وتوجبها العقيدة، وبالتالي تصبح الدولة (أداة) أو (وسيلة) لتحقيق الغايات، التي حددتها العقيدة، لوجود الفرد والمجتمع، من خلال ترجمتها، في عمليات، وأدوار متميزة، ووظائف محددة(7).
وقد أدى غياب هذه الأمور، إلى شلل المجتمعات الإسلامية، فكان من آثار ذلك، انحسار خُلُق تبنِّي هموم الناس، من واقعنا.
أمر آخر مرتبط بالعقيدة، وهو أن هذا الدين، قبل أن يُكسِب الإنسانَ حقوقه، بَنى عقيدتَه، وحَرَّره وجدانيًا.. فقد حرر هذا الدينُ الإنسانَ المؤمن به، من (عبادة غير الله، ومن الخضوع لأحد غيره، فما لأحد عليه غير الله سلطان، وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضَرًّا ولا نَفْعًا إلا الله، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء إلا الله، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده، هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم، ولا لغيرهم شيئًا...
فإذا تحرر الوجدان من شعور العبادة والخضوع لعبد من عباد الله، وامتلأ بالشعور، بأنه على اتصال كامل بالله، لم يتأثر بشعور الخوف على الحياة، أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة... وهو شعور خبيث، يغض من إحساس الفرد بنفسه، وقد يدعوه إلى قبول الذل، وإلى التنازل عن كثير من كرامته، وكثير من حقوقه، ولكن الإسلام ،لشدة حرصه، على أن يحقق للناس العزة والكرامة، وأن يبث في نفوسهم، الاعتزاز بالحق، والمحافظة على العدل، وأن يضمن لذلك كله -علاوة على التشريع- عدالة اجتماعية مطلقة، لا يفرط فيها إنسان... لهذا كله، يُعْنَى' عنايةً خاصة، بأن يقاوم الشعور بالخوف، على الحياة، وعلى الرزق، وعلى المكانة، فالحياة بيد الله، وليس لمخلوق قدرة، على أن ينقص هذه الحياة، ساعة، أو بعض ساعة، كذلك ليس له أن يخدشها، خدشًا خفيفًا، بضرر خفيف: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا ً} (آل عمران:145)، {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا } (التوبة:51)، {لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } (يونس:49)..
وإذن، فلا كان الجبن والجبناء.. فالحياة والأجل، والنفع والضر، بيد الله ،دون سواه: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } (يونس:31)، {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } (فاطر:3)...
ويقرر القرآن أن خوف الفقر، إنما هو من إيحاء الشيطان، ليضعف النفس، ويصدها عن الثقة في الله، وعن الثقة في الخير: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم } (البقرة:268)(8).
ويتتبع كتاب الله، في نفس الإنسان،، كل ذرة من خوف، أو قلق، أو هوان، من شأنها أن تحجم به عن طلب المعالي، والسعي في رضا الله، أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وإقرارًا للحق، ودفاعًا عن حقوق الناس، وتبنـــيًا لهـــمومهم، ذرة قــــد تبقى مخــبوءة في بعــض حـــنايا النفـــس، أو مســاربها ، ليزيلها ، من خــوف على مــــكانة ، فالمُلْـك بيــد الله : {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشـــاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتــذل من تشــــاء بيدك الخير إنك عـــلى كل شيء قـــدير } (آل عمران:26)، أو من إحساس بقلة قدر، أمام من هم أشرف نسبًا، وأعظم جاهًا، فيقرر سبحانه: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } (الحجرات:13).
ويعالج سبحانه النفوس المريضة بالإحساس بالصَّغار، أمام أرباب الأموال، بحكايته تعالى لقصة قارون، التي ختمها بقوله عز وجل: {... قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافـرون } (القصص:79 ـ 82)، وقال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } (طه:131).
وقد يتحرر الإنسان، من كل ما سبق، حين تستتب العقيدة الحق في قلبه، ولكن يبقى مستذلاً لذاته، وشهواته، وعلائقه، فيستأصل الله هذا الإصر، ويكسر هذا الغُلَّ، بقوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصـــــــوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاســــــــقين } (التوبة: 24).
وقد أعجبني تعليق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية ، حيث قال: (وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ، والمطامح، والرغائب، ونقط الضعف في نفس الإنسان، ليضعها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى، حُبَّ الله ورسوله، وحب الجهاد في سبيله، لتكون التضحية كاملة، والتخلص من أَوْهَاق -أحْبَال - الشهوات كاملاً، فالنفس التي تتحرر من هذا كله، هي النفس، التي يتطلبها الإسلام، ويدعو إلى تكوينها، لتستعلي على الضَّرَاوة المذلة، وتَمْلِك قِياد أمرها، وتَنْزِع إلى ما هو أكبر، وأبعد مدى، من الرغبــات الوقتية الصــغيرة... وما كـان هذا تحـــذيرًا، ولا دعوة إلى الزهد، وترك طيبات الحياة، كما يحلو لبعضهم أن يفسر القرآن، أو كما يحلو لبعضهم، أن يتهم الإسلام، إنما كان دعوة للتحرر والانطلاق، من ضعف الشهوات والغرائز، ثم لا ضرر بعد ذلك، من الاستمتاع بالحياة، حين يملكها الإنسان، ولا تملكه: {قُل من حرم زينة الله التي أخرج لعـــــباده والطيبـــات من الرزق } (الأعراف:32) {ولا تنس نصيبك من الدنيا } (القصص:77))(9).
إن العقيدة الإسلامية، حال ملامستها لشِغَاف القلوب، وتجذرها في تلافيف العقول، حيث ينقدح الفهم لها، والإيمان بها، فينتشران جناحين، يطيران بالإنسان، نحو آفاق العزة، والكرامة، فالعمل والجهاد، لنيل مرضاة الله، والحصول على موعوده، ومَنْ أَصْدَقُ من الله وَعْدًا... إن العقيدة حال حياتها، ونبضها، وليس حال كونها مسجونة، في العقول، والكراريس في المجامع العلمية، إن هذه العقيدة هي التي، حين تتأصل في نفوس المسلمين، تدفعها لأن تتجند، وتصبح أوامر الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، المُطَالِبة بتبني هموم الناس، والتكافل معهم، ودفع الحقوق المعلومة في الأموال، للسائلين والمحرومين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أوامر مُتَلَقَّاة تَلَقِّي تنفيذ، لا تَلَقِّي تَعَلُّم، ومَلء للجَعْبَة، مما يحمي الأمة، ويجعل نُسْغ -ماء- الحضارة يسري في كِيانها، فَوَّارًا نافعًا -بإذن الله- نفعًا غير لازم، بل متعديًا للآخرين.
مسألة أخرى أيضًا، لها ارتباط بالجانب العقيدي، وهي تعطيل قانون السببية، انطلاقاً من تأصيلات طائفة من متكلمي الأمة، حتى قال محمد بن عمر الرازي: (كُل من فعل فعلاً لأجل تحصيل مصلحة، أو لدفع مفسدة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك، ومن كان كذلك كان ناقصًا بذاته مستكملاً بغيره، وهو في حق الله محال، وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء، فمع ذلك لا يحصل الرُّجْحَان -بضم الراء وفتحها- فامتنع تحصيلها... )(10).
قال ابن القيم - وكـان ممن تفــطَّن إلى خطــورة هذه القضـــية -: (ولا تستهن بأمر هذه المسألة، فإن شأنها أعظم، وخطرها أجل، وفروعها كثيرة... ومن فروعها، أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر، والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار، والكسوف والاستسرار، وحوادث الجو وحوادث الأرض... لم يسببوا لذلك سببًا، إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن المُرَجَّح يرجح مثلاً على مثل، بلا مُرجِّح، ولا سبب، ولا حكمة، ولا غاية، يفعل لأجلها، ونفوا الأسباب والقوى، والطبائع، والقرائن، والحِكَم والغايات، حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفلك والرَّحا، ونحوهما مما يدور، متفكك دائمًا عن الدوران، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وأن الألوان، والمقادير، والأشكال، والصفات، تعدم على تعاقب الآنات، والمختار القادر يعيدها كل وقت، وأن مُلوحة ماء البحر، كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب، ولا حكمة، ولا علة غائية.. ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص، من قول الفلاسفة، إلا بذلك، ورأى' الفلاسفةُ، أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة، إلا بالتزام أصول هؤلاء، ولم تهتد الطائفات للحق، الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه، يفعل بمشيئته، وقدرته، وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب، وحِكم، وغايات محمودة، وقد أودع العَالَمَ من القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب والمسببات، ما به قام الخَلْقُ والأمر، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلى من الفقه ناحية، وتكلم بأصول النُّفَاة، فعادى' فقهُهُ أصلَ دينه )(11).
وقال رحمه الله، ردًا على هذه المسألة: (إنه سبحانه ربَط الأسباب بمسبباتها، شرعًا وقَدَرًا، وجعل الأسباب محل حكمته، في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني والقَدَري، فإنكار الأسباب، جحد للضروريات، وقدح في العقول والفِطَر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل سبحانه، مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم، والثواب، والعقاب، والحدود ، والكفارات، والأوامر، والنواهي، والحِل، والحُرْمة، كل ذلك مرتبطًا بالأسباب، قائمًا بها... فالأسباب محل الشرع والقَدَر، والقرآن مملوء بها، كقوله: {بما كنتم تعملون }، {بما كنتم تكسبون}، {كلوا واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية}، {جزاءً وِفاقًا })(12).
وقال في كتابه: الجواب الكافي، لمن سأل عن الدواء الشافي: (وقد رَتَّب الله سبحانه حصول الخيرات، في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور، في الدنيا والآخرة، في كتابه، على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والسبب على المسبب، وهذا في القرآن يزيد على الألف موضع)(13).
وبعد أن يعطي أمثلة متعددة على ذلك، يقول: (وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره، صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية والأمرية، على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة، ومصالحهما ومفاسدهما، على الأسباب والأعمال، ومن تَفَقَّه في هذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يَتَّكِل على القَدَر، جهلاً منه، وعجزًا، وتفريطًا، وإضاعة، فيكون توكله عجزًا، وعجزه توكلاً، بل الفقيه كل الفقيه، الذي يَرَدُّ القَدَر بالقَدَر، بل لا يمكن للإنسان أن يعيش، إلا بذلك، فإن الجوع، والعَطش، والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير، هي من القَدَر، والخَلْق كلهم ساعون، في دفع هذا القَدَر بالقَدَر، وهكذا من وفَّقهه الله، وألهمه رشده، يدفع قَدَر العقوبة الأخروية، بقَدَر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة.. فهذا وزن المخوف في الدنيا، وما يضاده، فرَبُّ الدارين واحد، وحِكْمتُه واحدة، لا يناقض بعضها بعضًا، ولا يبطل بعضها بعضًا، فهذه مسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان)(14).
إن انتشار عقيدة إبطال الأسباب في الأمة، قد أفضى بها إلى العجز، وإلى التواكل، مما جعل عطاءها يغيض، وعقول أبنائها تنكمش، وتقصر عن الإبداع، فشاع التعامل مع الكون، استهلاكًا وتأثرًا، وليس إبداعًا وتأثيرًا... الأمر الذي جَرَّ عواقب غير مرضية، وأسهم بفعالية في إدخال الأمة، إلى فترة جمود، قد طالت.
يقول د. عمر عبيد حسنه -وهو ممن تفطن إلى خطورة هذه المسألة، وصنَّفها من ضمن إصابات العقل المسلم-: (تم التجانف والعدول في التعامل، عن السنن الجارية، واكتشاف قوانين التسخير - إذ أسقطت الأسباب- إلى السنن الخارقة، وانتظار المنقذ القادم من الغيب، ليعالج التخلف، والتأخر، والتمزّق... وفي هذا، ما فيه من مجافاة للعقل المسلم، وللإنجاز الحضاري في عصر النبوة، فترة القدوة، لكنها إفرازات مناخ التخلف، واجتهادات عصر التخلف)(15).
ويا ليت الأمر اقتصر على الجانب العملي، بل تعدت الإصابة إلى الجانب التنظيري العلمي، فألغيت المقاصد، إذ استُبعد -من المنطلق الذي بسطنا الكلام عنه- أن تكون الشريعة وضعت لعلة، وسبب جلب المصالح العاجلة والآجلة للعباد، في الدنيا والآخرة، مما جعل عطاء فقهاء الأمة، ينحسر دون مجال الكشف عن مقاصد الشارع من شرعه، وهو مجال كان من شأنه، أن يوسع آفاق الأمة، ومداركها، ويجنبها الوقوع في نكبات كثيرة، سياسية، واجتماعية، واقتصادية، كمثل ما كان يمكن أن يقع، لو وزّع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أراضي سواد العراق، ولم يتفطن إلى مقاصد الشرع، في وجوب عمارة الأرض، وعدم تركها في يد ثُلَّةٍ قليلة، لن تستطيع تثميرها، وفي الحفاظ على كرامة الناس، بعدم تجريدهم من مقدراتهم الأساسية، ووضعها في أيدي قلة من الناس، يتميزون عن باقي الخلق بثرواتهم، فيتسلطون عليهم، وهذا مما يصطلح على تسميته بـ: (أصل اعتبار المال).
وقد جرّت الغفلة عن هذه المقاصد، وقوع المحاذير التي ذكرنا، وأخرى معها في العصور اللاحقات... ويرحم الله أبا إسحاق الشاطبي، إذ رفع عقيرته للدفاع عن كون الشريعة، مبنية على علل، مفندًا رأي من ذهب إلى عكس ذلك، فقال: (وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك... والمعتمد إنما هو أننا استقرينا من الشريعة، أنها وضعـــت لمصــــالح العباد، استـــقراءً لا ينـــازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل، وهو الأصل: {رســــلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (النساء:165) ، {وما أرســـلناك إلا رحمـة للعالمين }(الأنبياء:107).
وقــال في أصل الخلقــة: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً} (هود:7) ، {وما خلقــت الجـــن والإنـــس إلا ليعبدون } (الذاريات:56) ، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً} (الملك:2).
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {ما يريـــد الله ليجعل عليكم من حرج ولـــكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } (المائدة:6). وفي الصلاة : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } (العنكبوت:45). وقال في القبلة: {... فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للنـــاس عليـــكم حجــــة } (البقرة : 150) . وفي الجهـــــاد: {أُذن للذين يُقــــاتَلون بأنهم ظلمـــوا } (الحج:39). وفي القصاص: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } (البقرة:179). وفي التقرير على التوحيد: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } (الأعراف:172).
والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع، بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة... ومن هذه الجملة، ثبت القياس، والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه)(16).
أعلم أنني، قد أطلتُ بعض الشيء، في بسط هذه القضية، وظني، أنه بََسْطٌ يقتضيه المقام، وذلك لأن هذه الإصابة، قد تخمّرت في كِيان الأمة، طيلة قرون، وكانت لها آثار سلبية، من أجلاها، الجمود، والتسليم في تاريخنا وحياتنا للآخرين، كيما يصوغوهما، وفق ما يحلو لهم، وقصورنا عن التنقيب، من أجل الكشف عن مقاصد شرعة ربنا، والوقوف على مرامي مراده منا.
وعمومًا فإن تجاوز هذا الواقع، لا شك، سوف يحتاج إلى جهد، ليس باليسير، وإلى وقت، ليس بالقصير، غير أن ذلك يبقى في حيز الممكن، ويبقى التحقق به، مرتبطًا بالوعي العميق، بطبيعة المشكلة، والإرادة الصادقة لتجاوزها، والقدرة الكافية، فكرياً وماديًا، لاتخاذ التدابير الممكنة، من هذا كله، تخطيطًا، وتنزيلاً، على واقعنا، وإن انبعاث إرادات المسلمين، لتبني هموم بعضهم بعضًا، والتكافل مع بعضهم بعضًا، لرهين بتخطي هذه العقابيل الدقيقة والمزمنة والله الموفق.
ثانياً : الســــــــبب التربــــــوي
كثيرًا ما يصيبنا الذهول عن خطورة المسألة التربوية، وخصوصًا الجانب التأسيسي منها، فطفل اليوم، هو مسؤول الغد، ومن هنا جسامة مسؤولية، دوائر التربية، التي يتقلب فيها النشء، بدءًا بالأسرة، ومرورًا بالمدرسة، فالشارع، وانتهاءً بالدولة المؤطرة، لقنوات التربية المختلفة، من وسائل إعلام متنوعة، على تعدد محتوياتها، وحمولتها(17)، وعلاقات اجتماعية، واقتصادية، وممارسة سياسية.
ولعل أهم هذه الدوائر على الإطلاق، هي (دائرة الأسرة)، التي أشار إلى خطورتها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (كل مولودٍ يُولَد على الفِطْرة، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بَهيمةً جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جدعاء ، قال أبو هريرة -وهو راوي الحديث- واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {فِطْرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (الروم:30))(18).
فالأسرة تمثل النواة الأولى، لتخريج الإنسان الصالح، إلا أننا نلحظ أنها في أوطاننا، معطلة ، مهملة ، من كل توجيه، إلا ما ندر جدًا، فانكمشت وظيفتها في الإيواء، والإطعام، والمداواة، والكسوة، والدفع إلى المدرسة، في أحسن الحالات، على وجود تربية عكسية، تدرب بصرامة على الخنوع، وقبول القمع والاستبداد، واتهام النفس في كل حال، بحق، وبغير حق، فالأب يستبد بالجميع، والأم بعده، والذكور بالإناث، ثم الكبير فالكبير.. وحتى مناهج التعليم، ومنذ الكُتَّاب، تُعطى' المشـروعية العلـيا فيهـا ، للعـنف والرعـب ، وليس للتفهيم، والأخذ بالحسنى.
أضف إلى ذلك، انحسارًا في الجانب التنظيري، والتخطيطي، الذي من المفروض أن تضطلع به الدوائر المختصة في الأمة، والتي ترصد لها الميزانيات -قَلَّت أم كثرت- من أجل هذا الغرض، يمر ذا إلى الشارع، فيؤطره بأسلاك الخوف، ونزعات استعمال القوة، بكل أصنافها، من محسوبية، وجاه، ومال، وكيد، وغيرها، مما يتجلى في كل أنماط العلاقات السائدة في المجتمع، أفقية وعمودية، الأمر الذي يجعله عقيمًا، لا ينتج الأحرار المتميزين، الذين يعرفون المعروف، وينكرون المنكر، فيفضي ذلك، إلى اندحار المجتمع، وسيوخه في أوحال العبودية، إذ حين يغيب هذا الصنف من الناس، الذي يستدرج بين جنبيه دين الأمم، ونُُسْغها الحضاري، وهويتها، وذاكرتها، يحصل الانزلاق نحو السراب، وتصـــبح هــذه الأمم أحــــاديث، وتُمَزَّــق كل مُمَزَّق، يقول تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } (هود:116-117).
فضروري إذن، أن تبلور وسائل تربوية، تربي الناس جميعًا، بمختلف مستوياتهم العمرية، والاجتماعية، والعملية، وتوظف كل القنوات المتاحة ، من إعلام، وسياسة، ومنتديات ثقافية، وممارسات اقتصادية، ومؤسسات اجتماعية، في سبيل ذلك، وهي قنوات، ينبغي أن ترشد، وأن يضبط التعاملَ معها، استراتيجيةٌ مستوعبةٌ، يكون وضعها بعد دراسة، وبحث مستوفيين، حتى تعمل هذه القنوات، بتناسق، وتكامل، وليس بتنافر، وتعارض، لأن ههنا أخطر منطلقات الحياة، في أمة من الأمم، وهو منطلق التربية، والتنشئة، والتوجيه، يقول الرئيس المسلم، علي عزت بيغوفيتش:
( إن القرآن، يشتمل على مبدأ، وهو مبدأ مشترك للأديان الكبرى جمعاء، بأن المجتمع، إنما يمكن تنظيمه، عن طريق الإنسان، وبأنه ليس باستطاعة القوانين -وحتى الشرائع السماوية- إقامة مجتمع مثالي، بين الناس الفاسدين خلقيًا... إن إصلاح المجتمع، إنما يمكن، أن يقوم على أساس الإيمان بالله، والتسليم بحكمه، وعن طريق تربية الإنسان، فعلينا أن نسلك هذه السبيل الوحيدة، المؤدية إلى الهدف المنشود)(19).
بهذا فقط، يمكن أن نَضْحَى' قادرين، على تعليم الناس الحرية، بمفهومها الإسلامي(20)، وتعليمهم قيمها، وفضيلة الدفاع عنها، والموت في سبيلها، وبهذا فقط، يمكن أن تصبح تربيتنا، قادرة على تخريج أحرار، يعيشون هذه الحرية -المِنحة الإلهية- ويحترمونها، وتصبح تربيتنا أيضًا، قادرة، على تعليم الناس، أنهم إخوة، وأن التكافل بينهم، واجب، مأجورون عليه، من لدن الله، وإلا فإن الخطاب التعليمي المحدث، عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتبني هموم الناس، المقتصر على التحديث، دون المرور إلى التربية، لن يجدي كثيرًا، لأنه لن يجد النفوس، التي تحمله، وتحيا به، وله.
ثالثاً : الســــــبب التصــــــوري
سادت في العالم الإسلامي، خلال العصور الأخيرة، تصورات سلبية، حادت بالمسلمين عن المشاركة الإيجابية، في حل مشاكل مجتمعاتهم، وحادت بهم، عن التبني المتبادل، لهموم بعضهم بعضًا، فقد كانت المسألة، مسألة الزهو، بخصائص الفكر الإسلامي، أمام الفكر الآخر، ولم تكن المسألة، مسألة الانطلاق، بالفكر الإسلامي، ليتحول إلى واقع حي، ينظم للإنسان حياته، بشمولية، واتزان(21)، وقد حل هذا بساحنا، في غياب الوعي، بأن البعد عن المعترك السياسي والاجتماعي - تجانف عن الشخصية الإسلامية، في اكتمالها، وتخل عن تاريخنا للآخرين، كيما يصوغوه بالشكل الذي يهيئ الأمة، لأن تخدم مصالحهم المتورمة، المتفقة مع ملامح المستقبل، الذي يرومون العيش في أكنافه.
لقد كانت القضية المطروحة، هي أن الدين شيء، والسياسة شيء آخر، فلا يجوز تسييس الدين، ولا تديين السياسة، لأن الدين، علاقة الإنسان بربه، بينما تمثل السياسة علاقة الإنسان بالإنسان!! واستراح هذا التصور في الذهنية العامة، واستغرق فيه أغلب علماء الدين... ولعل هؤلاء، الذي يطلقون هذه الأفكار، من خلال هذه الذهنية، ينطلقون من النظر إلى الممارسة القلقة، التي تتحرك فيها السياسة، في الواقع المعيش(22)، لدى الفئات المنحرفة من الأمة، أو الجماعات الكافرة، في سلوكها القلق المنحرف، عن خط الإسلام، مما قد يخلق انطباعًا، بأن السياسة، تعني الانحراف، في دائرة الكذب، والدجل، والنفاق، مما يختلف كليًا ،عن مفاهم الصدق، والإخلاص، والإيمان، فلا يمكن للإنسان المسلم الملتزم، أن يلتقي بها، من قريب، أو من بعيد، وربما كان بعض هؤلاء، يفكرون، بأن الاقتراب من السياسة، يمثل الاقتراب من مواقع الخطر، الذي يلتقي، مع إلقاء النفس في التهلكة، المحرم شرعًا، باعتبار أنه يمثل خط المواجهة، للقوى الكبرى، التي تملك القوة الساحقة المدمرة، والأجهزة الخفية الدقيقة، والإعلام الجبار، والمواقع الاقتصادية الواسعة، والمواقف السياسية الحاسمة، التي تؤدي إلى نتائج صعبة، على صعيد سلامة الواقع الإسلامي ككل(23).
إلا أن الممارسة السياسية في الإسلام، تخضع للضوابط الإسلامية، في أخلاقية السلوك، مما يمكن، أن يجعل حركتها مختلفة، عن الواقع السياسي المنحرف، من دون أن يدفعها ذلك، إلى السقوط في دائرة السذاجة، التي تسقط مواقفها، وتهز مواقعها، بفعل الأساليب الملتوية في سياسات الآخرين، لأن للأخلاق الإسلامية، واقعيتها، فيما يحمله ذلك من استثناءات، تنقذ الواقع، من المأزق، وتحمي الناس، من استغلال الآخرين، للقيم الروحية، أو الأخلاقية في الإسلام، بل تنسجم معها، في مرونتها العملية المتحركة، التي توحي، بأن المحرمات، انطلقت من أجل إنقاذ الإنسان، من الضرر، وتوجيهه نحو النفع، فإذا اقتربت، من الخط الأحمر، الذي قد يسقط معه الإنسان، فإن العزيمة تتوقف، لتفسح المجال للرخصة، التي تترك لها حرية الحركة -ضمن ضوابط معروفة ومقررة- في نطاق تحقيق الأهداف العليا(24).
وهذا هو الذي يجعل من جواز الكذب، في بعض المواقع، من مثل: (خذل عنا)، ليتحول الكذب من قيمة محرّمة في ذلك الموقع، إلى قيمة جائزة، تنقذ الموقف.. قال ابن إسحاق، في سياق كلامه عن غزوة الأحزاب: (ثم إن نعيم، بن مسعود، بن عامر، بن أنيف، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمتُ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خُدعة )، فخرج نعيم، بن مسعود، حتى أتى بني قُرَيظة، وكان لهم نديمًا في الجاهلية، فقال: يابَنِي قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشًا، وغطفان، ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا، وغطفان، قد جاءوا، لحرب محمد، وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم، وأموالهم، ونساؤهم، بغيره.. فأقنعهم ألا يتورطوا مع قريش، وغطفان في قتال، حتى يأخذوا منهم رجالاً رهائن، كي لا يولوا الأدبار، فيبقون وحدهم في المدينة، دون أي نصير، على محمد، وأصحابه، فقالوا: إنه لَلرأي.. ثم خرجَ حتى' أتى قريشًا، فأنبأهم أن بني قريظة، قد ندموا على ما صنعوا، وأنهم اتفقوا خُفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يختطفوا عددًا من أشراف قريش، وغطفان، فيسلموهم له، ليقتلهم، وقال لهم: إن أرسلت إليكم يهود، يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فإياكم أن تسلموهم رجلاً منكم.. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال لهم مثل الذي قال لقريش، وهكذا تألب بعضهم على بعض، وفقدت الثقة فيما بينهم، وأصبح كل فريق يتهم الآخر بالغدر والخيانة )(25)، فانفرط عِقْد وحدتهم، واختل أمرهم، وصارت عاقبته للمسلمين.
وهذا الأصل، هو الذي يجعل الغيبة واجبة في نطاق حركتها، في ساحة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومستحبة في دائرة النصيحة للمسلمين، وجائزة مباحة في أحوال أخرى، ضمن ما أباحه الشرع، وهذا أيضًا، هو الذي يبعد المداراة من أن تكون نفاقًا: (إنَّ شَرَّ الناسِ عند الله منزلةً يوم القيامة، مَن تَرَكَه الناسُ مَخَافَةَ شَرِّه )(26)، والانفتاح من أن يكون تنازلاً، والمهادنة من أن تكون استسلامًا، إذا انضبطت بضوابط التشريع الإسلامي، الذي تحفل فيه القواعد العامة بالكثير من الاستثناءات، في الواجبات والمحرمات، وهي استثناءات تقدر بقدرها.
إن الإسلام دين واقعي، تتجلى واقعيته في تصوراته للإنسان، والكون، والحياة، وتتجلى في تشريعاته.. فالإسلام ينص على أن القدرة، هي حد التشريع، الذي يقف عنده، فلا يتحرك إلا معها، فإذا انتهت القـــدرة، وقف التشـــريع حيـث هــو، لا يتقـــدم، ولا يتـــأخر: {لا يُكَلِّف الله نفسًا إلا وسعها } (البقرة:286)، {فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن:16)، فليس هناك ضيق على الإنسان في التشريع، بل هو المجال الواســع، الذي يجعـــله يتحـــرك براحة وحرية، فإذا ضاق عليه حكم، وَسِعَـــه آخر، فهنــاك قاعـــدة نفي الحرج: {وما جعل عليـــكم في الدين من حرج } (الحـــج : 78)، وقاعـــدة: (الضــرار يزال )، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار )، وقاعدة: (الأمر إذا ضاق اتسع ).
فالواقعية اتجاه عام في الدين الإسلامي، وإذا كان هذا هو الأصل، فلن تشذ عنه الممارسة السياسة، فالإسلام واقعي أيضًا، في ممارسته السياسية، إلا أن هذه التصورات، حين اختفت في أذهان المسلمين، وغابت عنهم، هذه الضوابط، أصيبوا بالجمود، الناجم عن حُبِّ، بل وَهْم التَّنَزُّه، مما أسقطهم، في مفسدة إسلام أنفسهم، ومقدراتهم للآخرين، ليتصرفوا بذلك، كيف شاءوا، غافلين عن كون التجربة التاريخية، قد بينت، أن انخراط المسلمين، في مواجهة التحديات الاستكبارية الساحقة، المفروضة على الواقع المسلم، بالآليات المناسبة، تقدح زند حركية المجتمع المسلم كله(27)، بمنحها لأفراده الثقة بأنفسهم، وبإسلامهم، بحيث تصبح للفرد المسلم شخصية جديدة ،تفصله عن الشخصيات الأخرى، لا انفصال العزلة عن الناس، ولكن انفصال الشخصية، ذات الملامح الأصلية، عن الشخصيات، ذات الملامح المزيفة، أو الخصائص الأخرى..
إن هذه المغالبة، تنزع الإنسان المسلم، من استسلاميته للتيارات الأخرى، بملئها للفراغ، الذي تتركه الممارسة المحيدة، لعموم المسلمين، عن عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بكل مراتبه، فهي توقظ في الإنسان، الإحساسَ بالامتلاء، الذي لا يترك فراغًا، تتسرب منه ساربة، من فكر، أو ممارسة، مبعدين عن مرضاة الله، مما تنهدم معه الهوة بين النص والواقع، بوجود الإنسان الفعال، الواثق بربه، وبدينه، الذي يكوِّن بعقله، وبروحه، وجسمه، الجسر بينهما، كما تنهدم مع هذه المغالبة، الهوة بين قدرات الإنسان المسلم وإنجازاته، لأن أصفاد الجهل بالدين، تحطم بتعلمه، الذي يفرضه الالتزام به، دينًا شاملاً لأبعاد الحياة كلها، تعلمًا مبينًا للواجب فيها، مما يدفع إلى التدخل، لصياغة الخطط الإنجازية، لأوامر الله في الواقع ،الذي تتكسر أغلال الجهل به أيضًا، بفركه ومعالجته، مما يكسب الإنسان فكرًا سُنَنِيًّا، رافضًا للتواكل، وقدرة على فهم حجم الأسباب، في بناء عمل الإنسان، في الأرض من المنظور العقيدي الإسلامي، والحركة ، انطلاقًا من بناء هذا الدين التصوري، الذي انفلتت معالمه من أذهان جل المسلمين، وهذه أمور مجتمعة، تتجاوز بالإنسان المسلم وَهْدة العجز، التي يستهلك قَطْعها كل طاقات الإنسان.
إن التصور هو الهيكل الذي ينشز عليه لحم السلوك، فيستوي بسوائه، أو ينحرف بانحرافه، ومن هنا أهمية وخطورة الجانب التصوري في آن.
رابعاً : الســـــــبب الفقـــــهي
وذلك أن فقه المشاركة في أمتنا، لم يأخذ حظه الكافي، من التنظير والبسط، شأن فقه المجتمع، فتراثنا الفقهي، يشهد بأن الأول، كان الاهتمام به ضافيًا، على حساب الثاني، مما جعل البُعد التنظيمي للمشاركة، في هموم المجتمع، وتحمل مسؤوياته، يكون ضامرًا، الأمر الذي ترك هذه الممارسة، لأريحية الأفراد، دون أن يضبطها ضابط، من تنظيم وتقنين، يجعلها أكثر فاعلية واستمرارية.. وهذا أمر، وراءه أسباب متعددة، منها:
1 - أن المجتمع المسلم الأول، كان بسيطًا في تركيبته، فقد كان الناس قبل الإسلام، ينتظمون في أسرهم، وعشائرهم، وقبائلهم، وهي مؤسسات، تقوم على أعراف قديمة، مستقرة، مألوفة، تُرْضَع مع حليب الأمهات، وتُتَنَفس مع الهواء، فلا يستوي الفرد، إلا وقد تعلمها مع المشي، والكلام، وانضبط لها، كما ينضبط لقوانين الجاذبية، والنمو، بل أكثر من هذا، فالذين انفلتوا من هذا النظام، معلومون، معروفون باسم الصعاليك، ولا يزال بعض أعيانهم، معروفين عند الأمة إلى الآن.
من هنا، فإن الضبط المباشر، الذي جاء في التشريع الإسلامي، لهذه المؤسسات، كان كافيًا، ولم يتم بالتالي، تلقي الإشارات الكثيرة، الموجودة، في الكتاب والسنة، والتي تؤصل، لبلورة المجتمع، والدولة، من مختلف التوجيهات، كالأمر بالشورى، والحض على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتكافل، والانتصار، على البغي...الخ، وهي توجيهات، تحتاج إلى هيئات، وقوانين، من أجل تنزيلها، على واقع الناس، والحفــــاظ عليها، بل وتنميتها، ممـــا لم يكد، يفعــل منه شيء، ذو بال.
2 - الاعتماد على البعد العقيدي في النفوس، أزهد المسلمين في ضبط المؤسسات، وبلورة فقه خاص لها، يستنبط من الأحكام، التي تؤطرها، فاحتلت الثقة مكانًا، أكبر مما ينبغي، فلما ضعف الوازع العقيدي، وكثرت الكوارث، طفت الأزمة على السطح، وبحدة كبيرة، مما جعل المسلمين، يقبلون في العصر الحديث، كثيرًا من القوانين، والتنظيمات، الدخيلة عليهم، لسد الفراغ، الذي تركه قصورهم، وقعودهم، عن الاجتهاد، لبلورة فقه المجتمع، ومختلف مؤسساته:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى فصادف قلبًا خاليًا فَتَمَكَّنَا
3 - شهد عهد الخلافة الراشدة، تطورًا كبيرًا، في مؤسسات المجتمع الإسلامي، وفي فقهها، فكتاب عمر لأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، في القضاء -مثلاً- شاهد على ذلك، إذ فيه توجيهات إلى الفهم، والاستشارة، كما فيه، دعم وتأصيل، للمؤسسة القضائية(28)، التي كانت مؤسسة مجتمعية محضة، مستقلة عن الدولة، قائمة بذاتها، ومَاتِحَة - مُسْتَقِية - مباشرة، من المرجعية العليا للأمة، أقصد القرآن والسنة، مضافًا إلى ذلك، اجتهاد القضاة وفهمهم، وهو ما أَلَحَّ عليه عمرُ رضي الله عنه، في كتابه إلى أبي موسى، السالف الذكر.
وقد شهد عمر، رضي الله عنه، أيضًا، اقتباس نظام الدواوين، كما شهد ضبط، مؤسسة الجند، وتنظيمها، فقد بدأ عمر فعلاً، ببلورة فقه خاص بها، من ذلك على سبيل المثال: جعله المدة القصوى، التي يبقاها الجندي، بعيدًا عن أهله، هي أربعة أشـــهر، بناء على ســـؤالٍ سألَهُ ابْنَــتَهُ أُمَّ المؤمنين حفصة، رضي الله عنها، عن صبر المرأة على زوجها، حيث أجابته، بأن المرأة، لا تصبر على زوجها، أكثر من أربعة أشهر.
غير أن انحرافًا كبيرًا، في هذا المسار، يسجل بعد تقلص ظِلِّ الرُّشد، عن الدولة الإسلامية، فقد طغا على الانشغال بالمجتمع، وقضاياه، انشغال المسؤولين بإخماد الثورات، والتمكين للدولة القائمة، على أنقاض دولة، وتتبع بقايا الدولة المسقطة وجذورها، وبناء القصور والهيبة، وجمع الخراج، والسقوط في وِهَادِ، مشاريع، وهمية منحرفة، كسقوط دولة المأمون في فخ الاعتزال، والترويج له، وما أعقب ذلك من فتنة وجهود لإخمادها، ثم انشغال جهاز الدولة من الداخل بالمؤامرات، والمؤامرات المضادة، كمؤامرة البرامكة، والبويهيين، والسلاجقة، والانشغال، بفتنة قيام الدولة الفاطمية، في مصر.. وحين تمزقت الدولة العباسية، وترهلت الدولة الفاطمية، جاء دور المماليك، وهلم جرا.
نفس الشأن في المغرب، حيث كان الأمويون في الأندلس، إلى حين عهد المؤامرات، فالمؤامرات المضادة، بين ملوك الطوائف، ثم انطفاء الجَذْوة، والدول المتعاقبة في المغرب الأقصى، وإفريقيا بشكل عام.
وباختصار، لم يكن، هَمُّ المسؤولين، هو الاشتغال بالمجتمع، وإنما الاشتغال بالدولة، أو لنقل (بالذات)، وأُسلم المجتمعُ إلى نفسه، بخلاف الشأن، حين كان الرشد، معانقًا للدولة، فقد كان الاهتمام (بمجال التشريع، وتأصيل الشريعة الإسلامية، وتنظيم الشورى، وإعلان قراراتها، والتخطيط، والإحصاء، والرقابة، ووضع السياسات، التي تراقب معاملات المجتمع، وتوجه المناشط الاقتصادية فيه )(29).
ليس هذا، يعني أن الدول الإسلامية، كان تاريخها، مجردًا من الوضاءة والإشراق، وإن ركزنا هــهنا، على جانــب له صـــلة بموضوعنا، وإلا فلا يخفى عطاء المسلمين، خلال التاريخ، وهذا أمر لا ينكر، وكان يمكن أن يكون أحسن، لولا ما ذكرنا، وأمور أخرى، لا يتسع المقام لذكرها.
وبعد عهد الخلافة الراشدة، أصبحت جهود الفقهاء، منصبة على تطوير فقه الأفراد وتفصيله، لأن الدولة انتهجت بعد الفترة الراشدة، نهجًا تسلطيًا، غير شوري، محيدًا لعموم المسلمين، عن تحمل مسؤولياتهم، في النصح والتسيير.. وإن التسيير، لعبء ينُوء بالعُصْبة أولي القوة... فبرز أنموذج للمواطن الصالح، بعيد كل البُعد عن الأنموذج القرآني، فأصلحُ الناس أنآهم، عن تحمل المسؤوليات!! وأبعدهم عن الأمر، بالمعروف والنهي عن المنكر!! وبكلمة مختصرة: صار أصلح الناس، أكثرهم انحسارًا، وإقبالاً على خويصة نفسه، وهذا تجانف صارخ عن قيم الإسلام، الذي جعل هذه الأمة، خير أمة أخرجت للناس، لأنها أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )(30).
فلما ساد هذا الوضع، بعد مقاومة، أُطيح فيها برؤوس خيِّرة، من المؤمنين، كالحسين بن علي، رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، وسعيد بن جُبير رحمه الله، وغيرهم... أسلم الأمراء، لأنفسهم، ولغرائزهم، وأهوائهم، أسلموا لسكرة السلطان، فتسلطوا على المسلمين، عامتهم وخاصتهم... فنشأ ما يسمى بفقهاء السلطان والبلاط، يفتون تحت الضغط والسَّورة، ضغط السلطان، وسَورة المال، لذا وجدنا علماء السلف، يهربون مما قد يؤدي إلى هذا الوضع، فالإمام مالك أَبَى' وقال: (العِلم يؤتى إليه ولا يأتي )(31). وقال لرسول المهدي، حين طلب منه، أن يرافقه: (أقرئ أميرَ المؤمنين السلام، وقل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )(32).
والإمام سفيان الثوري أبى'، وفَرَّ ليجاور الكعبة، وكان يلوم شُريكًا القاضي، على تَوَلِّيهِ القضاء، بل كفَّ عن مكالمته، وقال له قولته المشهورة: (والله، لا يَراني الله أُكَلِّمُك، أو تترك ما أنت فيه )(33)، يقصد القضاء.
نشأ إذن فقه المجتمع ومؤسساته، بعيدًا عن المجتمع، وانطلاقًا من الرأي الواحد، والفهم الواحد، فقه الدولة، وفهم الدولة، فلم يُبْرَد ويشحذ بالمناظرات والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد (فقه العبادات بشكل عام )، إذ لم يكن، هَمُّ التنظير للحياة في المجتمع، والممارسات بشتى أنواعها، التي تجري فيه، وهَمُّ استنباط الأحكام الخاصة بذلك، هَمُّ المجتمع، وفقهائه، بل بقي هَمُّ الدولة ،وفقهائها فقط.
وهذا سبب هام، من أسباب فقر هذا الفقه، وضموره، وقلة مصداقية ما هو موجود منه، مما ينبغي، أن يُتجاوز، ويستدرك، وإنني لأميل إلى الاعتقاد بأن هذا التجاوز، وهذا الاستدراك، لا يمكن إطلاقًا، أن يتم خارج المعترك السياسي، وخارج إطــار تحمـــل أمانات، ومســؤوليات، حقيقـــية -قَلَّت أم كَثُرَت- من مسؤوليات الأمة، من قِبل مؤمنين بهذا الدين، معتقدين بصلاحية شريعته، لتأطير حياة الناس، في كل مصر وعصر، بل أكثر من ذلك معتقدين، بوجوب تأطير حياة الناس بشريعة الله، وإلا فلن تعدو الاجتهادات، أن تكون نظرية علوية، مطلقة، متجانفة عن الإشكالات الحقيقية، الموجودة في المجتمعات المشخصة والعينية، التي تحتاج إلى اجتهادات خاصة بها.. وهي اجتهادات لا غرو، سـوف تـكون عقب سِيَر في الأرض، ونظـر في تجـارب الآخـرين، واسـتفادة منها.
أولاً: السبب العقيدي
ثانيًا: السبب التربوي
ثالثًا: السبب التصوري
رابعًا: السبب الفقهي
خامسًا: السبب الواقعي
الاستبداد *
الفرقة *
واقع الأمة المعاصر، نتاج ترسبات كثيفة، عقيدية، وتصورية، وتربوية، واجتماعية، وسياسية... تمت عبر أزمنة تاريخية، يمكن تشبيهها بالأزمنة الجيولوجية، التي تتم خلالها الترسبات الجيولوجية على سطح الأرض.. وفهم واقعنا المعاصــر، لا يمــكن بالتــالي، أن يتـم، إلا بقراءة هذه الترسبات، والوقوف على تفرعاتها، واستجلاء أسبابها، حتى يصبح تجاوزها ممكنًا، عبر معالجة لها دقيقة، في تجزئ، ضمن شمول وتكامل.
لقد دَلَفَتْ أُمَّتُنا، إلى واقع القَصعة، الذي أَنْذَرَناه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم(1) عَبر حِقَب متتالية، وبفعل عوامل متعددة، لعل من أهمها : انحسار خُلُق، تبنِّي هموم الناس من الأمة.. ومن هُنا، فإن بحث هذه المشكلة، ينبغي أن يؤطره، وعي قوي، بأن ثمة عوامل أخرى، أدت إلى اضمحلال قوى الأمة، وتَرَهُّل بنيتها، حتى لا نسقط في أحادية المدخل، التي من أقل سلبياتها : اختزال مشاكل الأمة، في مشكل واحد.. وبناء على هذا، فإن هدف هذا الفصل، هو محاولة قراءة الترسبات، التي أدت إلى انحسار التكافل، والتآزر، والتعاون، والشفاعة الحسنة، والتضحية في سبيل الله، والمستضعفين من واقعنا، وذلك عن طريق عرض أهم الأسباب، التي أدت إلى ذلك، وتتبع آثارها.
أولاً : الســـــبب العقــيدي
إن التشريع في الدين الإسلامي، مبني -كما لا يخفى- على الاعتقادات، وهذا سبب كون سمة القرآن المكي الغالبة، هي بناء العقيدة، وجدانيًا، وعقليًا، تمهيدًا للتشريع، الذي كان هو سمة القرآن المدني الأبرز.. فموضوع القرآن المكي الأساس هو: (حقيقة الألوهية، وحقيقة العبودية، وحقيقة العلاقات بينهما، وتعريف الناس بربهم الحق، الذي ينبغي لهم أن يدينوا له، ويعبدوه، ويتبعوا أمره، وشرعه، وتنحية ما أُدخل على العقيدة الفطرية الصحيحة، من غَبش، ودَخَن، وانحراف، والْتواء، ورَدّ الناس إلى إلههم الحق، الذي يستحق الدينونة، لربوبيته )(2).
وإنما كان التركيز، في القرآن المكي، على العقيدة، لأنها القضية الكبرى الأساسية، في دين الإسلام، (فالأخلاق لا تقوم، إلا على أساسٍ من عقيدةٍ، تضع الموازين، وتقرر القيم، كما تقرر السلطة، التي تستند إليها هذه الموازين، والقيم، والجزاء الذي تملكه هذه السلطة، وتوقعه على الملتزمين والمخالفين، وإنه قبل تقرير هذه العقيدة، وتحديد هذه السلطة، تظل القيم كلها متأرجحة، وتظل الأخلاق، التي تقوم عليها متأرجحة، كذلك، بلا ضابط وبلا سلطان وبلا جزاء... هذا جانب من سر هذا الدين، وطبيعته... يحدد منهجه في بناء نفسه، وفي امتداده، ويجعل بناء العقيدة، وتمكينها، وشمول هذه العقيدة، واستغراقها، لشعاب النفس كلها، ضرورة من ضروات النشأة الصحيحة، وضمانًا من ضمانات الاكتمال والتناسق )(3) بين الظاهر في عالم المعاملات، والكامن في عالم الاعتقادات، والقناعات، والتصورات، ولكنها حقيقة، قد غفل عنها المسلمون..
وقد أدت هذه الغفلة، إلى اضطرابات جسيمة في واقعهم، بسبب روم طوائف من أبناء الأمة، الذين اختطفهم عالم الأشياء، وأذهلهم عن كينونة أمتهم، تطبيق مناهج نهضوية، لا تبدأ من هذا المبتدأ.. و(خمول جماهير الشعب، يمكن التغلب عليه، إذا كان راجعًا، إلى مجرد التجنب الفطري للكد، وبذل الجهد، والتعرض للخطر، وليس بالإمكان التغلب عليه، إذا كان يعبر عن الرفض، لنفسِ المثلِ الأعلى للكفاح، لكونه مضادًا، لصميم إرادة عامة الشعب، وإحساساتهم... إن الشعوب الإسلامية، لن تقبل أبدًا، بأي شيء، يخالف الإسلام مخالفة صريحة، ذلك لأن الإسلام، ليس مجرد فكرة وقانون، فقد أصبح الإسلام في نفوس هذه الشعوب، محبة وشعورًا، وإن كل من خرج على الإسلام، كائنًا من كان، فلن يحصد غير الكراهية والمقاومة )(4).
ولهذا السبب، بقيت كل المشاريع النهضوية المطروحة، عالقة، وأصيبت الأمة بالخمول، من جَرَّاء لا مبالاة، وعدم اكتراث الشعوب، مما ضَيَّع جهودًا، وهَدَر مقدراتٍ، الأمَّةُ اليوم في أمس الحاجة إليها... إنه الذهول عن شاكلة بنية الأمة، ومبتدأ نشأتها، وطبيعة عجنتها... إنه الذهول عن الأساس العقيدي، (وتفصيل ذلك: أنه عقب اختفاء النموذج الإسلامي للوجود السياسي -على تدهوره في أخريات أيامه، والذي كانت تعبر عنه، بشكل أو بآخر في المشرق، الدولةُ العثمانية - برزت الدولة المحدثة، التي شكلت قطيعة حادة، مع الوظيفة العقيدية، في جوهرها النقي، نتيجة لتبنيها العملي، لمبدأ العلمانية اللادينية، وتطبيقه في كافة أمورها السياسية، داخليًا، وخارجيًا، ومع ذلك، فإن مضمون الوظيفة، وجوانبها، وأبعادها المضيعة، ترسبت في الوعي، والذاكرة الجمعية، لفئات، أو طوائف الأمة، ليشكل رصيدًا وعنصرًا ثابتًا، على مستوى العقيدة، والقيم، وكسلوك فردي، وجماعي، وإن كان لا يجد تعبيره السياسي، وأبعاده النظامية، في الوقت الراهن )(5).
ومن هنا فإنني أرى، مع د. حامد عبد المجيد القويسي، صدق رأي من ذهبوا إلى أن (الدولة المحدثة) في البلاد الإسلامية، نتاج عملية التحديث، على النمط الأوروبي، الأمر الذي جعل منها إطارًا فوقيًا، مركبًا على قمة المجتمع، يحكمه، وهو منفصل عنه.. وهي أيضًا محدثة، لأنها تشكل انحرافًا، أو ابتداعًا في عقيدة المجتمع الأساسية والسائدة، والتي كان ينبغي للدولة، أن تكون أداة، ووسيلة لتحقيقها، في الواقع(6).
فالأمة انبثقت، من عقيدة التوحيد الجامعة، التي رسمت الخطوط الأساسية، والأُطُر العامة، التي يُهتدى بها، في عملية تأسيس البناء، فهذه العقيدة، هي التي وضعت مبادئ النظم، وقواعدها، وحددت مجالات الممارسة، والحركة، لتكون الدولة نتاجًا، ومحصلة طبيعية، لهذا المجتمع العقيدي، ومن ثم كان من البديهي، أن تلتزم الدولة، بأساس وجودها العقيدي، الذي قام عليه المجتمع، واستقام على طريقته، ويعني هذا، أن تجعل الدولة غايات حركتها وممارستها السياسية، نابعة من الغايات، التي تحددها وتوجبها العقيدة، وبالتالي تصبح الدولة (أداة) أو (وسيلة) لتحقيق الغايات، التي حددتها العقيدة، لوجود الفرد والمجتمع، من خلال ترجمتها، في عمليات، وأدوار متميزة، ووظائف محددة(7).
وقد أدى غياب هذه الأمور، إلى شلل المجتمعات الإسلامية، فكان من آثار ذلك، انحسار خُلُق تبنِّي هموم الناس، من واقعنا.
أمر آخر مرتبط بالعقيدة، وهو أن هذا الدين، قبل أن يُكسِب الإنسانَ حقوقه، بَنى عقيدتَه، وحَرَّره وجدانيًا.. فقد حرر هذا الدينُ الإنسانَ المؤمن به، من (عبادة غير الله، ومن الخضوع لأحد غيره، فما لأحد عليه غير الله سلطان، وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضَرًّا ولا نَفْعًا إلا الله، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء إلا الله، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده، هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم، ولا لغيرهم شيئًا...
فإذا تحرر الوجدان من شعور العبادة والخضوع لعبد من عباد الله، وامتلأ بالشعور، بأنه على اتصال كامل بالله، لم يتأثر بشعور الخوف على الحياة، أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة... وهو شعور خبيث، يغض من إحساس الفرد بنفسه، وقد يدعوه إلى قبول الذل، وإلى التنازل عن كثير من كرامته، وكثير من حقوقه، ولكن الإسلام ،لشدة حرصه، على أن يحقق للناس العزة والكرامة، وأن يبث في نفوسهم، الاعتزاز بالحق، والمحافظة على العدل، وأن يضمن لذلك كله -علاوة على التشريع- عدالة اجتماعية مطلقة، لا يفرط فيها إنسان... لهذا كله، يُعْنَى' عنايةً خاصة، بأن يقاوم الشعور بالخوف، على الحياة، وعلى الرزق، وعلى المكانة، فالحياة بيد الله، وليس لمخلوق قدرة، على أن ينقص هذه الحياة، ساعة، أو بعض ساعة، كذلك ليس له أن يخدشها، خدشًا خفيفًا، بضرر خفيف: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابًا مؤجلا ً} (آل عمران:145)، {قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا } (التوبة:51)، {لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون } (يونس:49)..
وإذن، فلا كان الجبن والجبناء.. فالحياة والأجل، والنفع والضر، بيد الله ،دون سواه: {قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله } (يونس:31)، {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض لا إله إلا هو فأنى تؤفكون } (فاطر:3)...
ويقرر القرآن أن خوف الفقر، إنما هو من إيحاء الشيطان، ليضعف النفس، ويصدها عن الثقة في الله، وعن الثقة في الخير: {الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم } (البقرة:268)(8).
ويتتبع كتاب الله، في نفس الإنسان،، كل ذرة من خوف، أو قلق، أو هوان، من شأنها أن تحجم به عن طلب المعالي، والسعي في رضا الله، أمرًا بالمعروف، ونهيًا عن المنكر، وإقرارًا للحق، ودفاعًا عن حقوق الناس، وتبنـــيًا لهـــمومهم، ذرة قــــد تبقى مخــبوءة في بعــض حـــنايا النفـــس، أو مســاربها ، ليزيلها ، من خــوف على مــــكانة ، فالمُلْـك بيــد الله : {قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشـــاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتــذل من تشــــاء بيدك الخير إنك عـــلى كل شيء قـــدير } (آل عمران:26)، أو من إحساس بقلة قدر، أمام من هم أشرف نسبًا، وأعظم جاهًا، فيقرر سبحانه: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } (الحجرات:13).
ويعالج سبحانه النفوس المريضة بالإحساس بالصَّغار، أمام أرباب الأموال، بحكايته تعالى لقصة قارون، التي ختمها بقوله عز وجل: {... قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافـرون } (القصص:79 ـ 82)، وقال تعالى: {ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجًا منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى } (طه:131).
وقد يتحرر الإنسان، من كل ما سبق، حين تستتب العقيدة الحق في قلبه، ولكن يبقى مستذلاً لذاته، وشهواته، وعلائقه، فيستأصل الله هذا الإصر، ويكسر هذا الغُلَّ، بقوله تعالى: {قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصـــــــوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاســــــــقين } (التوبة: 24).
وقد أعجبني تعليق سيد قطب رحمه الله على هذه الآية ، حيث قال: (وهكذا يجمع في آية واحدة جميع اللذائذ، والمطامح، والرغائب، ونقط الضعف في نفس الإنسان، ليضعها في كفة، ويضع في الكفة الأخرى، حُبَّ الله ورسوله، وحب الجهاد في سبيله، لتكون التضحية كاملة، والتخلص من أَوْهَاق -أحْبَال - الشهوات كاملاً، فالنفس التي تتحرر من هذا كله، هي النفس، التي يتطلبها الإسلام، ويدعو إلى تكوينها، لتستعلي على الضَّرَاوة المذلة، وتَمْلِك قِياد أمرها، وتَنْزِع إلى ما هو أكبر، وأبعد مدى، من الرغبــات الوقتية الصــغيرة... وما كـان هذا تحـــذيرًا، ولا دعوة إلى الزهد، وترك طيبات الحياة، كما يحلو لبعضهم أن يفسر القرآن، أو كما يحلو لبعضهم، أن يتهم الإسلام، إنما كان دعوة للتحرر والانطلاق، من ضعف الشهوات والغرائز، ثم لا ضرر بعد ذلك، من الاستمتاع بالحياة، حين يملكها الإنسان، ولا تملكه: {قُل من حرم زينة الله التي أخرج لعـــــباده والطيبـــات من الرزق } (الأعراف:32) {ولا تنس نصيبك من الدنيا } (القصص:77))(9).
إن العقيدة الإسلامية، حال ملامستها لشِغَاف القلوب، وتجذرها في تلافيف العقول، حيث ينقدح الفهم لها، والإيمان بها، فينتشران جناحين، يطيران بالإنسان، نحو آفاق العزة، والكرامة، فالعمل والجهاد، لنيل مرضاة الله، والحصول على موعوده، ومَنْ أَصْدَقُ من الله وَعْدًا... إن العقيدة حال حياتها، ونبضها، وليس حال كونها مسجونة، في العقول، والكراريس في المجامع العلمية، إن هذه العقيدة هي التي، حين تتأصل في نفوس المسلمين، تدفعها لأن تتجند، وتصبح أوامر الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم، المُطَالِبة بتبني هموم الناس، والتكافل معهم، ودفع الحقوق المعلومة في الأموال، للسائلين والمحرومين، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، أوامر مُتَلَقَّاة تَلَقِّي تنفيذ، لا تَلَقِّي تَعَلُّم، ومَلء للجَعْبَة، مما يحمي الأمة، ويجعل نُسْغ -ماء- الحضارة يسري في كِيانها، فَوَّارًا نافعًا -بإذن الله- نفعًا غير لازم، بل متعديًا للآخرين.
مسألة أخرى أيضًا، لها ارتباط بالجانب العقيدي، وهي تعطيل قانون السببية، انطلاقاً من تأصيلات طائفة من متكلمي الأمة، حتى قال محمد بن عمر الرازي: (كُل من فعل فعلاً لأجل تحصيل مصلحة، أو لدفع مفسدة، فإن كان تحصيل تلك المصلحة أولى من عدم تحصيلها، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل ذلك، ومن كان كذلك كان ناقصًا بذاته مستكملاً بغيره، وهو في حق الله محال، وإن كان تحصيلها وعدمه بالنسبة إليه سواء، فمع ذلك لا يحصل الرُّجْحَان -بضم الراء وفتحها- فامتنع تحصيلها... )(10).
قال ابن القيم - وكـان ممن تفــطَّن إلى خطــورة هذه القضـــية -: (ولا تستهن بأمر هذه المسألة، فإن شأنها أعظم، وخطرها أجل، وفروعها كثيرة... ومن فروعها، أنهم لما تكلموا فيما يحدثه الله تعالى من المطر، والنبات والحيوان، والحر والبرد، والليل والنهار، والإهلال والإبدار، والكسوف والاستسرار، وحوادث الجو وحوادث الأرض... لم يسببوا لذلك سببًا، إلا مجرد المشيئة والقدرة، وأن المُرَجَّح يرجح مثلاً على مثل، بلا مُرجِّح، ولا سبب، ولا حكمة، ولا غاية، يفعل لأجلها، ونفوا الأسباب والقوى، والطبائع، والقرائن، والحِكَم والغايات، حتى يقول من أثبت الجوهر الفرد منهم: إن الفلك والرَّحا، ونحوهما مما يدور، متفكك دائمًا عن الدوران، والقادر المختار يعيده كل وقت كما كان، وأن الألوان، والمقادير، والأشكال، والصفات، تعدم على تعاقب الآنات، والمختار القادر يعيدها كل وقت، وأن مُلوحة ماء البحر، كل لحظة تعدم وتذهب، ويعيدها القادر المختار، كل ذلك بلا سبب، ولا حكمة، ولا علة غائية.. ورأوا أنهم لا يمكنهم التخلص، من قول الفلاسفة، إلا بذلك، ورأى' الفلاسفةُ، أنهم لا يمكنهم الدخول في الشريعة، إلا بالتزام أصول هؤلاء، ولم تهتد الطائفات للحق، الذي لا يجوز غيره، وهو أنه سبحانه، يفعل بمشيئته، وقدرته، وإرادته، ويفعل ما يفعله بأسباب، وحِكم، وغايات محمودة، وقد أودع العَالَمَ من القوى، والطبائع، والغرائز، والأسباب والمسببات، ما به قام الخَلْقُ والأمر، وهذا قول جمهور أهل الإسلام، وأكثر طوائف النظار، وهو قول الفقهاء قاطبة، إلا من خلى من الفقه ناحية، وتكلم بأصول النُّفَاة، فعادى' فقهُهُ أصلَ دينه )(11).
وقال رحمه الله، ردًا على هذه المسألة: (إنه سبحانه ربَط الأسباب بمسبباتها، شرعًا وقَدَرًا، وجعل الأسباب محل حكمته، في أمره الديني والشرعي، وأمره الكوني والقَدَري، فإنكار الأسباب، جحد للضروريات، وقدح في العقول والفِطَر، ومكابرة للحس، وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل سبحانه، مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم، والثواب، والعقاب، والحدود ، والكفارات، والأوامر، والنواهي، والحِل، والحُرْمة، كل ذلك مرتبطًا بالأسباب، قائمًا بها... فالأسباب محل الشرع والقَدَر، والقرآن مملوء بها، كقوله: {بما كنتم تعملون }، {بما كنتم تكسبون}، {كلوا واشربوا بما أسلفتم في الأيام الخالية}، {جزاءً وِفاقًا })(12).
وقال في كتابه: الجواب الكافي، لمن سأل عن الدواء الشافي: (وقد رَتَّب الله سبحانه حصول الخيرات، في الدنيا والآخرة، وحصول الشرور، في الدنيا والآخرة، في كتابه، على الأعمال، ترتيب الجزاء على الشرط، والمعلول على العلة، والسبب على المسبب، وهذا في القرآن يزيد على الألف موضع)(13).
وبعد أن يعطي أمثلة متعددة على ذلك، يقول: (وبالجملة، فالقرآن من أوله إلى آخره، صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر، والأحكام الكونية والأمرية، على الأسباب، بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة، ومصالحهما ومفاسدهما، على الأسباب والأعمال، ومن تَفَقَّه في هذه المسألة، وتأملها حق التأمل، انتفع بها غاية النفع، ولم يَتَّكِل على القَدَر، جهلاً منه، وعجزًا، وتفريطًا، وإضاعة، فيكون توكله عجزًا، وعجزه توكلاً، بل الفقيه كل الفقيه، الذي يَرَدُّ القَدَر بالقَدَر، بل لا يمكن للإنسان أن يعيش، إلا بذلك، فإن الجوع، والعَطش، والبرد، وأنواع المخاوف والمحاذير، هي من القَدَر، والخَلْق كلهم ساعون، في دفع هذا القَدَر بالقَدَر، وهكذا من وفَّقهه الله، وألهمه رشده، يدفع قَدَر العقوبة الأخروية، بقَدَر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة.. فهذا وزن المخوف في الدنيا، وما يضاده، فرَبُّ الدارين واحد، وحِكْمتُه واحدة، لا يناقض بعضها بعضًا، ولا يبطل بعضها بعضًا، فهذه مسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها، ورعاها حق رعايتها، والله المستعان)(14).
إن انتشار عقيدة إبطال الأسباب في الأمة، قد أفضى بها إلى العجز، وإلى التواكل، مما جعل عطاءها يغيض، وعقول أبنائها تنكمش، وتقصر عن الإبداع، فشاع التعامل مع الكون، استهلاكًا وتأثرًا، وليس إبداعًا وتأثيرًا... الأمر الذي جَرَّ عواقب غير مرضية، وأسهم بفعالية في إدخال الأمة، إلى فترة جمود، قد طالت.
يقول د. عمر عبيد حسنه -وهو ممن تفطن إلى خطورة هذه المسألة، وصنَّفها من ضمن إصابات العقل المسلم-: (تم التجانف والعدول في التعامل، عن السنن الجارية، واكتشاف قوانين التسخير - إذ أسقطت الأسباب- إلى السنن الخارقة، وانتظار المنقذ القادم من الغيب، ليعالج التخلف، والتأخر، والتمزّق... وفي هذا، ما فيه من مجافاة للعقل المسلم، وللإنجاز الحضاري في عصر النبوة، فترة القدوة، لكنها إفرازات مناخ التخلف، واجتهادات عصر التخلف)(15).
ويا ليت الأمر اقتصر على الجانب العملي، بل تعدت الإصابة إلى الجانب التنظيري العلمي، فألغيت المقاصد، إذ استُبعد -من المنطلق الذي بسطنا الكلام عنه- أن تكون الشريعة وضعت لعلة، وسبب جلب المصالح العاجلة والآجلة للعباد، في الدنيا والآخرة، مما جعل عطاء فقهاء الأمة، ينحسر دون مجال الكشف عن مقاصد الشارع من شرعه، وهو مجال كان من شأنه، أن يوسع آفاق الأمة، ومداركها، ويجنبها الوقوع في نكبات كثيرة، سياسية، واجتماعية، واقتصادية، كمثل ما كان يمكن أن يقع، لو وزّع عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أراضي سواد العراق، ولم يتفطن إلى مقاصد الشرع، في وجوب عمارة الأرض، وعدم تركها في يد ثُلَّةٍ قليلة، لن تستطيع تثميرها، وفي الحفاظ على كرامة الناس، بعدم تجريدهم من مقدراتهم الأساسية، ووضعها في أيدي قلة من الناس، يتميزون عن باقي الخلق بثرواتهم، فيتسلطون عليهم، وهذا مما يصطلح على تسميته بـ: (أصل اعتبار المال).
وقد جرّت الغفلة عن هذه المقاصد، وقوع المحاذير التي ذكرنا، وأخرى معها في العصور اللاحقات... ويرحم الله أبا إسحاق الشاطبي، إذ رفع عقيرته للدفاع عن كون الشريعة، مبنية على علل، مفندًا رأي من ذهب إلى عكس ذلك، فقال: (وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة، كما أن أفعاله كذلك... والمعتمد إنما هو أننا استقرينا من الشريعة، أنها وضعـــت لمصــــالح العباد، استـــقراءً لا ينـــازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسل، وهو الأصل: {رســــلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل } (النساء:165) ، {وما أرســـلناك إلا رحمـة للعالمين }(الأنبياء:107).
وقــال في أصل الخلقــة: {وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً} (هود:7) ، {وما خلقــت الجـــن والإنـــس إلا ليعبدون } (الذاريات:56) ، {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا ً} (الملك:2).
وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة، فأكثر من أن تحصى، كقوله بعد آية الوضوء: {ما يريـــد الله ليجعل عليكم من حرج ولـــكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم } (المائدة:6). وفي الصلاة : { إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر } (العنكبوت:45). وقال في القبلة: {... فولوا وجوهكم شطره لئلا يكون للنـــاس عليـــكم حجــــة } (البقرة : 150) . وفي الجهـــــاد: {أُذن للذين يُقــــاتَلون بأنهم ظلمـــوا } (الحج:39). وفي القصاص: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب } (البقرة:179). وفي التقرير على التوحيد: {ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين } (الأعراف:172).
والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع، بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة... ومن هذه الجملة، ثبت القياس، والاجتهاد، فلنجر على مقتضاه)(16).
أعلم أنني، قد أطلتُ بعض الشيء، في بسط هذه القضية، وظني، أنه بََسْطٌ يقتضيه المقام، وذلك لأن هذه الإصابة، قد تخمّرت في كِيان الأمة، طيلة قرون، وكانت لها آثار سلبية، من أجلاها، الجمود، والتسليم في تاريخنا وحياتنا للآخرين، كيما يصوغوهما، وفق ما يحلو لهم، وقصورنا عن التنقيب، من أجل الكشف عن مقاصد شرعة ربنا، والوقوف على مرامي مراده منا.
وعمومًا فإن تجاوز هذا الواقع، لا شك، سوف يحتاج إلى جهد، ليس باليسير، وإلى وقت، ليس بالقصير، غير أن ذلك يبقى في حيز الممكن، ويبقى التحقق به، مرتبطًا بالوعي العميق، بطبيعة المشكلة، والإرادة الصادقة لتجاوزها، والقدرة الكافية، فكرياً وماديًا، لاتخاذ التدابير الممكنة، من هذا كله، تخطيطًا، وتنزيلاً، على واقعنا، وإن انبعاث إرادات المسلمين، لتبني هموم بعضهم بعضًا، والتكافل مع بعضهم بعضًا، لرهين بتخطي هذه العقابيل الدقيقة والمزمنة والله الموفق.
ثانياً : الســــــــبب التربــــــوي
كثيرًا ما يصيبنا الذهول عن خطورة المسألة التربوية، وخصوصًا الجانب التأسيسي منها، فطفل اليوم، هو مسؤول الغد، ومن هنا جسامة مسؤولية، دوائر التربية، التي يتقلب فيها النشء، بدءًا بالأسرة، ومرورًا بالمدرسة، فالشارع، وانتهاءً بالدولة المؤطرة، لقنوات التربية المختلفة، من وسائل إعلام متنوعة، على تعدد محتوياتها، وحمولتها(17)، وعلاقات اجتماعية، واقتصادية، وممارسة سياسية.
ولعل أهم هذه الدوائر على الإطلاق، هي (دائرة الأسرة)، التي أشار إلى خطورتها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حين قال: (كل مولودٍ يُولَد على الفِطْرة، فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البهيمةُ بَهيمةً جَمْعَاء، هل تحسون فيها من جدعاء ، قال أبو هريرة -وهو راوي الحديث- واقرؤوا إن شئتم قوله تعالى: {فِطْرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون } (الروم:30))(18).
فالأسرة تمثل النواة الأولى، لتخريج الإنسان الصالح، إلا أننا نلحظ أنها في أوطاننا، معطلة ، مهملة ، من كل توجيه، إلا ما ندر جدًا، فانكمشت وظيفتها في الإيواء، والإطعام، والمداواة، والكسوة، والدفع إلى المدرسة، في أحسن الحالات، على وجود تربية عكسية، تدرب بصرامة على الخنوع، وقبول القمع والاستبداد، واتهام النفس في كل حال، بحق، وبغير حق، فالأب يستبد بالجميع، والأم بعده، والذكور بالإناث، ثم الكبير فالكبير.. وحتى مناهج التعليم، ومنذ الكُتَّاب، تُعطى' المشـروعية العلـيا فيهـا ، للعـنف والرعـب ، وليس للتفهيم، والأخذ بالحسنى.
أضف إلى ذلك، انحسارًا في الجانب التنظيري، والتخطيطي، الذي من المفروض أن تضطلع به الدوائر المختصة في الأمة، والتي ترصد لها الميزانيات -قَلَّت أم كثرت- من أجل هذا الغرض، يمر ذا إلى الشارع، فيؤطره بأسلاك الخوف، ونزعات استعمال القوة، بكل أصنافها، من محسوبية، وجاه، ومال، وكيد، وغيرها، مما يتجلى في كل أنماط العلاقات السائدة في المجتمع، أفقية وعمودية، الأمر الذي يجعله عقيمًا، لا ينتج الأحرار المتميزين، الذين يعرفون المعروف، وينكرون المنكر، فيفضي ذلك، إلى اندحار المجتمع، وسيوخه في أوحال العبودية، إذ حين يغيب هذا الصنف من الناس، الذي يستدرج بين جنبيه دين الأمم، ونُُسْغها الحضاري، وهويتها، وذاكرتها، يحصل الانزلاق نحو السراب، وتصـــبح هــذه الأمم أحــــاديث، وتُمَزَّــق كل مُمَزَّق، يقول تعالى: {فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون } (هود:116-117).
فضروري إذن، أن تبلور وسائل تربوية، تربي الناس جميعًا، بمختلف مستوياتهم العمرية، والاجتماعية، والعملية، وتوظف كل القنوات المتاحة ، من إعلام، وسياسة، ومنتديات ثقافية، وممارسات اقتصادية، ومؤسسات اجتماعية، في سبيل ذلك، وهي قنوات، ينبغي أن ترشد، وأن يضبط التعاملَ معها، استراتيجيةٌ مستوعبةٌ، يكون وضعها بعد دراسة، وبحث مستوفيين، حتى تعمل هذه القنوات، بتناسق، وتكامل، وليس بتنافر، وتعارض، لأن ههنا أخطر منطلقات الحياة، في أمة من الأمم، وهو منطلق التربية، والتنشئة، والتوجيه، يقول الرئيس المسلم، علي عزت بيغوفيتش:
( إن القرآن، يشتمل على مبدأ، وهو مبدأ مشترك للأديان الكبرى جمعاء، بأن المجتمع، إنما يمكن تنظيمه، عن طريق الإنسان، وبأنه ليس باستطاعة القوانين -وحتى الشرائع السماوية- إقامة مجتمع مثالي، بين الناس الفاسدين خلقيًا... إن إصلاح المجتمع، إنما يمكن، أن يقوم على أساس الإيمان بالله، والتسليم بحكمه، وعن طريق تربية الإنسان، فعلينا أن نسلك هذه السبيل الوحيدة، المؤدية إلى الهدف المنشود)(19).
بهذا فقط، يمكن أن نَضْحَى' قادرين، على تعليم الناس الحرية، بمفهومها الإسلامي(20)، وتعليمهم قيمها، وفضيلة الدفاع عنها، والموت في سبيلها، وبهذا فقط، يمكن أن تصبح تربيتنا، قادرة على تخريج أحرار، يعيشون هذه الحرية -المِنحة الإلهية- ويحترمونها، وتصبح تربيتنا أيضًا، قادرة، على تعليم الناس، أنهم إخوة، وأن التكافل بينهم، واجب، مأجورون عليه، من لدن الله، وإلا فإن الخطاب التعليمي المحدث، عن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتبني هموم الناس، المقتصر على التحديث، دون المرور إلى التربية، لن يجدي كثيرًا، لأنه لن يجد النفوس، التي تحمله، وتحيا به، وله.
ثالثاً : الســــــبب التصــــــوري
سادت في العالم الإسلامي، خلال العصور الأخيرة، تصورات سلبية، حادت بالمسلمين عن المشاركة الإيجابية، في حل مشاكل مجتمعاتهم، وحادت بهم، عن التبني المتبادل، لهموم بعضهم بعضًا، فقد كانت المسألة، مسألة الزهو، بخصائص الفكر الإسلامي، أمام الفكر الآخر، ولم تكن المسألة، مسألة الانطلاق، بالفكر الإسلامي، ليتحول إلى واقع حي، ينظم للإنسان حياته، بشمولية، واتزان(21)، وقد حل هذا بساحنا، في غياب الوعي، بأن البعد عن المعترك السياسي والاجتماعي - تجانف عن الشخصية الإسلامية، في اكتمالها، وتخل عن تاريخنا للآخرين، كيما يصوغوه بالشكل الذي يهيئ الأمة، لأن تخدم مصالحهم المتورمة، المتفقة مع ملامح المستقبل، الذي يرومون العيش في أكنافه.
لقد كانت القضية المطروحة، هي أن الدين شيء، والسياسة شيء آخر، فلا يجوز تسييس الدين، ولا تديين السياسة، لأن الدين، علاقة الإنسان بربه، بينما تمثل السياسة علاقة الإنسان بالإنسان!! واستراح هذا التصور في الذهنية العامة، واستغرق فيه أغلب علماء الدين... ولعل هؤلاء، الذي يطلقون هذه الأفكار، من خلال هذه الذهنية، ينطلقون من النظر إلى الممارسة القلقة، التي تتحرك فيها السياسة، في الواقع المعيش(22)، لدى الفئات المنحرفة من الأمة، أو الجماعات الكافرة، في سلوكها القلق المنحرف، عن خط الإسلام، مما قد يخلق انطباعًا، بأن السياسة، تعني الانحراف، في دائرة الكذب، والدجل، والنفاق، مما يختلف كليًا ،عن مفاهم الصدق، والإخلاص، والإيمان، فلا يمكن للإنسان المسلم الملتزم، أن يلتقي بها، من قريب، أو من بعيد، وربما كان بعض هؤلاء، يفكرون، بأن الاقتراب من السياسة، يمثل الاقتراب من مواقع الخطر، الذي يلتقي، مع إلقاء النفس في التهلكة، المحرم شرعًا، باعتبار أنه يمثل خط المواجهة، للقوى الكبرى، التي تملك القوة الساحقة المدمرة، والأجهزة الخفية الدقيقة، والإعلام الجبار، والمواقع الاقتصادية الواسعة، والمواقف السياسية الحاسمة، التي تؤدي إلى نتائج صعبة، على صعيد سلامة الواقع الإسلامي ككل(23).
إلا أن الممارسة السياسية في الإسلام، تخضع للضوابط الإسلامية، في أخلاقية السلوك، مما يمكن، أن يجعل حركتها مختلفة، عن الواقع السياسي المنحرف، من دون أن يدفعها ذلك، إلى السقوط في دائرة السذاجة، التي تسقط مواقفها، وتهز مواقعها، بفعل الأساليب الملتوية في سياسات الآخرين، لأن للأخلاق الإسلامية، واقعيتها، فيما يحمله ذلك من استثناءات، تنقذ الواقع، من المأزق، وتحمي الناس، من استغلال الآخرين، للقيم الروحية، أو الأخلاقية في الإسلام، بل تنسجم معها، في مرونتها العملية المتحركة، التي توحي، بأن المحرمات، انطلقت من أجل إنقاذ الإنسان، من الضرر، وتوجيهه نحو النفع، فإذا اقتربت، من الخط الأحمر، الذي قد يسقط معه الإنسان، فإن العزيمة تتوقف، لتفسح المجال للرخصة، التي تترك لها حرية الحركة -ضمن ضوابط معروفة ومقررة- في نطاق تحقيق الأهداف العليا(24).
وهذا هو الذي يجعل من جواز الكذب، في بعض المواقع، من مثل: (خذل عنا)، ليتحول الكذب من قيمة محرّمة في ذلك الموقع، إلى قيمة جائزة، تنقذ الموقف.. قال ابن إسحاق، في سياق كلامه عن غزوة الأحزاب: (ثم إن نعيم، بن مسعود، بن عامر، بن أنيف، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمتُ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي، فمرني بما شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما أنت فينا رجل واحد، فخذل عنا إن استطعت فإن الحرب خُدعة )، فخرج نعيم، بن مسعود، حتى أتى بني قُرَيظة، وكان لهم نديمًا في الجاهلية، فقال: يابَنِي قريظة، قد عرفتم ودي إياكم، وخاصة ما بيني وبينكم، قالوا: صدقت، لست عندنا بمتهم، فقال لهم: إن قريشًا، وغطفان، ليسوا كأنتم، البلد بلدكم، فيه أموالكم، وأبناؤكم، ونساؤكم، لا تقدرون أن تحولوا منه إلى غيره، وإن قريشًا، وغطفان، قد جاءوا، لحرب محمد، وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدهم، وأموالهم، ونساؤهم، بغيره.. فأقنعهم ألا يتورطوا مع قريش، وغطفان في قتال، حتى يأخذوا منهم رجالاً رهائن، كي لا يولوا الأدبار، فيبقون وحدهم في المدينة، دون أي نصير، على محمد، وأصحابه، فقالوا: إنه لَلرأي.. ثم خرجَ حتى' أتى قريشًا، فأنبأهم أن بني قريظة، قد ندموا على ما صنعوا، وأنهم اتفقوا خُفية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن يختطفوا عددًا من أشراف قريش، وغطفان، فيسلموهم له، ليقتلهم، وقال لهم: إن أرسلت إليكم يهود، يلتمسون منكم رهنًا من رجالكم، فإياكم أن تسلموهم رجلاً منكم.. ثم خرج حتى أتى غطفان، فقال لهم مثل الذي قال لقريش، وهكذا تألب بعضهم على بعض، وفقدت الثقة فيما بينهم، وأصبح كل فريق يتهم الآخر بالغدر والخيانة )(25)، فانفرط عِقْد وحدتهم، واختل أمرهم، وصارت عاقبته للمسلمين.
وهذا الأصل، هو الذي يجعل الغيبة واجبة في نطاق حركتها، في ساحة الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومستحبة في دائرة النصيحة للمسلمين، وجائزة مباحة في أحوال أخرى، ضمن ما أباحه الشرع، وهذا أيضًا، هو الذي يبعد المداراة من أن تكون نفاقًا: (إنَّ شَرَّ الناسِ عند الله منزلةً يوم القيامة، مَن تَرَكَه الناسُ مَخَافَةَ شَرِّه )(26)، والانفتاح من أن يكون تنازلاً، والمهادنة من أن تكون استسلامًا، إذا انضبطت بضوابط التشريع الإسلامي، الذي تحفل فيه القواعد العامة بالكثير من الاستثناءات، في الواجبات والمحرمات، وهي استثناءات تقدر بقدرها.
إن الإسلام دين واقعي، تتجلى واقعيته في تصوراته للإنسان، والكون، والحياة، وتتجلى في تشريعاته.. فالإسلام ينص على أن القدرة، هي حد التشريع، الذي يقف عنده، فلا يتحرك إلا معها، فإذا انتهت القـــدرة، وقف التشـــريع حيـث هــو، لا يتقـــدم، ولا يتـــأخر: {لا يُكَلِّف الله نفسًا إلا وسعها } (البقرة:286)، {فاتقوا الله ما استطعتم } (التغابن:16)، فليس هناك ضيق على الإنسان في التشريع، بل هو المجال الواســع، الذي يجعـــله يتحـــرك براحة وحرية، فإذا ضاق عليه حكم، وَسِعَـــه آخر، فهنــاك قاعـــدة نفي الحرج: {وما جعل عليـــكم في الدين من حرج } (الحـــج : 78)، وقاعـــدة: (الضــرار يزال )، وقاعدة: (لا ضرر ولا ضرار )، وقاعدة: (الأمر إذا ضاق اتسع ).
فالواقعية اتجاه عام في الدين الإسلامي، وإذا كان هذا هو الأصل، فلن تشذ عنه الممارسة السياسة، فالإسلام واقعي أيضًا، في ممارسته السياسية، إلا أن هذه التصورات، حين اختفت في أذهان المسلمين، وغابت عنهم، هذه الضوابط، أصيبوا بالجمود، الناجم عن حُبِّ، بل وَهْم التَّنَزُّه، مما أسقطهم، في مفسدة إسلام أنفسهم، ومقدراتهم للآخرين، ليتصرفوا بذلك، كيف شاءوا، غافلين عن كون التجربة التاريخية، قد بينت، أن انخراط المسلمين، في مواجهة التحديات الاستكبارية الساحقة، المفروضة على الواقع المسلم، بالآليات المناسبة، تقدح زند حركية المجتمع المسلم كله(27)، بمنحها لأفراده الثقة بأنفسهم، وبإسلامهم، بحيث تصبح للفرد المسلم شخصية جديدة ،تفصله عن الشخصيات الأخرى، لا انفصال العزلة عن الناس، ولكن انفصال الشخصية، ذات الملامح الأصلية، عن الشخصيات، ذات الملامح المزيفة، أو الخصائص الأخرى..
إن هذه المغالبة، تنزع الإنسان المسلم، من استسلاميته للتيارات الأخرى، بملئها للفراغ، الذي تتركه الممارسة المحيدة، لعموم المسلمين، عن عملية الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، بكل مراتبه، فهي توقظ في الإنسان، الإحساسَ بالامتلاء، الذي لا يترك فراغًا، تتسرب منه ساربة، من فكر، أو ممارسة، مبعدين عن مرضاة الله، مما تنهدم معه الهوة بين النص والواقع، بوجود الإنسان الفعال، الواثق بربه، وبدينه، الذي يكوِّن بعقله، وبروحه، وجسمه، الجسر بينهما، كما تنهدم مع هذه المغالبة، الهوة بين قدرات الإنسان المسلم وإنجازاته، لأن أصفاد الجهل بالدين، تحطم بتعلمه، الذي يفرضه الالتزام به، دينًا شاملاً لأبعاد الحياة كلها، تعلمًا مبينًا للواجب فيها، مما يدفع إلى التدخل، لصياغة الخطط الإنجازية، لأوامر الله في الواقع ،الذي تتكسر أغلال الجهل به أيضًا، بفركه ومعالجته، مما يكسب الإنسان فكرًا سُنَنِيًّا، رافضًا للتواكل، وقدرة على فهم حجم الأسباب، في بناء عمل الإنسان، في الأرض من المنظور العقيدي الإسلامي، والحركة ، انطلاقًا من بناء هذا الدين التصوري، الذي انفلتت معالمه من أذهان جل المسلمين، وهذه أمور مجتمعة، تتجاوز بالإنسان المسلم وَهْدة العجز، التي يستهلك قَطْعها كل طاقات الإنسان.
إن التصور هو الهيكل الذي ينشز عليه لحم السلوك، فيستوي بسوائه، أو ينحرف بانحرافه، ومن هنا أهمية وخطورة الجانب التصوري في آن.
رابعاً : الســـــــبب الفقـــــهي
وذلك أن فقه المشاركة في أمتنا، لم يأخذ حظه الكافي، من التنظير والبسط، شأن فقه المجتمع، فتراثنا الفقهي، يشهد بأن الأول، كان الاهتمام به ضافيًا، على حساب الثاني، مما جعل البُعد التنظيمي للمشاركة، في هموم المجتمع، وتحمل مسؤوياته، يكون ضامرًا، الأمر الذي ترك هذه الممارسة، لأريحية الأفراد، دون أن يضبطها ضابط، من تنظيم وتقنين، يجعلها أكثر فاعلية واستمرارية.. وهذا أمر، وراءه أسباب متعددة، منها:
1 - أن المجتمع المسلم الأول، كان بسيطًا في تركيبته، فقد كان الناس قبل الإسلام، ينتظمون في أسرهم، وعشائرهم، وقبائلهم، وهي مؤسسات، تقوم على أعراف قديمة، مستقرة، مألوفة، تُرْضَع مع حليب الأمهات، وتُتَنَفس مع الهواء، فلا يستوي الفرد، إلا وقد تعلمها مع المشي، والكلام، وانضبط لها، كما ينضبط لقوانين الجاذبية، والنمو، بل أكثر من هذا، فالذين انفلتوا من هذا النظام، معلومون، معروفون باسم الصعاليك، ولا يزال بعض أعيانهم، معروفين عند الأمة إلى الآن.
من هنا، فإن الضبط المباشر، الذي جاء في التشريع الإسلامي، لهذه المؤسسات، كان كافيًا، ولم يتم بالتالي، تلقي الإشارات الكثيرة، الموجودة، في الكتاب والسنة، والتي تؤصل، لبلورة المجتمع، والدولة، من مختلف التوجيهات، كالأمر بالشورى، والحض على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتكافل، والانتصار، على البغي...الخ، وهي توجيهات، تحتاج إلى هيئات، وقوانين، من أجل تنزيلها، على واقع الناس، والحفــــاظ عليها، بل وتنميتها، ممـــا لم يكد، يفعــل منه شيء، ذو بال.
2 - الاعتماد على البعد العقيدي في النفوس، أزهد المسلمين في ضبط المؤسسات، وبلورة فقه خاص لها، يستنبط من الأحكام، التي تؤطرها، فاحتلت الثقة مكانًا، أكبر مما ينبغي، فلما ضعف الوازع العقيدي، وكثرت الكوارث، طفت الأزمة على السطح، وبحدة كبيرة، مما جعل المسلمين، يقبلون في العصر الحديث، كثيرًا من القوانين، والتنظيمات، الدخيلة عليهم، لسد الفراغ، الذي تركه قصورهم، وقعودهم، عن الاجتهاد، لبلورة فقه المجتمع، ومختلف مؤسساته:
أتاني هواها قبل أن أعرفَ الهوى فصادف قلبًا خاليًا فَتَمَكَّنَا
3 - شهد عهد الخلافة الراشدة، تطورًا كبيرًا، في مؤسسات المجتمع الإسلامي، وفي فقهها، فكتاب عمر لأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، في القضاء -مثلاً- شاهد على ذلك، إذ فيه توجيهات إلى الفهم، والاستشارة، كما فيه، دعم وتأصيل، للمؤسسة القضائية(28)، التي كانت مؤسسة مجتمعية محضة، مستقلة عن الدولة، قائمة بذاتها، ومَاتِحَة - مُسْتَقِية - مباشرة، من المرجعية العليا للأمة، أقصد القرآن والسنة، مضافًا إلى ذلك، اجتهاد القضاة وفهمهم، وهو ما أَلَحَّ عليه عمرُ رضي الله عنه، في كتابه إلى أبي موسى، السالف الذكر.
وقد شهد عمر، رضي الله عنه، أيضًا، اقتباس نظام الدواوين، كما شهد ضبط، مؤسسة الجند، وتنظيمها، فقد بدأ عمر فعلاً، ببلورة فقه خاص بها، من ذلك على سبيل المثال: جعله المدة القصوى، التي يبقاها الجندي، بعيدًا عن أهله، هي أربعة أشـــهر، بناء على ســـؤالٍ سألَهُ ابْنَــتَهُ أُمَّ المؤمنين حفصة، رضي الله عنها، عن صبر المرأة على زوجها، حيث أجابته، بأن المرأة، لا تصبر على زوجها، أكثر من أربعة أشهر.
غير أن انحرافًا كبيرًا، في هذا المسار، يسجل بعد تقلص ظِلِّ الرُّشد، عن الدولة الإسلامية، فقد طغا على الانشغال بالمجتمع، وقضاياه، انشغال المسؤولين بإخماد الثورات، والتمكين للدولة القائمة، على أنقاض دولة، وتتبع بقايا الدولة المسقطة وجذورها، وبناء القصور والهيبة، وجمع الخراج، والسقوط في وِهَادِ، مشاريع، وهمية منحرفة، كسقوط دولة المأمون في فخ الاعتزال، والترويج له، وما أعقب ذلك من فتنة وجهود لإخمادها، ثم انشغال جهاز الدولة من الداخل بالمؤامرات، والمؤامرات المضادة، كمؤامرة البرامكة، والبويهيين، والسلاجقة، والانشغال، بفتنة قيام الدولة الفاطمية، في مصر.. وحين تمزقت الدولة العباسية، وترهلت الدولة الفاطمية، جاء دور المماليك، وهلم جرا.
نفس الشأن في المغرب، حيث كان الأمويون في الأندلس، إلى حين عهد المؤامرات، فالمؤامرات المضادة، بين ملوك الطوائف، ثم انطفاء الجَذْوة، والدول المتعاقبة في المغرب الأقصى، وإفريقيا بشكل عام.
وباختصار، لم يكن، هَمُّ المسؤولين، هو الاشتغال بالمجتمع، وإنما الاشتغال بالدولة، أو لنقل (بالذات)، وأُسلم المجتمعُ إلى نفسه، بخلاف الشأن، حين كان الرشد، معانقًا للدولة، فقد كان الاهتمام (بمجال التشريع، وتأصيل الشريعة الإسلامية، وتنظيم الشورى، وإعلان قراراتها، والتخطيط، والإحصاء، والرقابة، ووضع السياسات، التي تراقب معاملات المجتمع، وتوجه المناشط الاقتصادية فيه )(29).
ليس هذا، يعني أن الدول الإسلامية، كان تاريخها، مجردًا من الوضاءة والإشراق، وإن ركزنا هــهنا، على جانــب له صـــلة بموضوعنا، وإلا فلا يخفى عطاء المسلمين، خلال التاريخ، وهذا أمر لا ينكر، وكان يمكن أن يكون أحسن، لولا ما ذكرنا، وأمور أخرى، لا يتسع المقام لذكرها.
وبعد عهد الخلافة الراشدة، أصبحت جهود الفقهاء، منصبة على تطوير فقه الأفراد وتفصيله، لأن الدولة انتهجت بعد الفترة الراشدة، نهجًا تسلطيًا، غير شوري، محيدًا لعموم المسلمين، عن تحمل مسؤولياتهم، في النصح والتسيير.. وإن التسيير، لعبء ينُوء بالعُصْبة أولي القوة... فبرز أنموذج للمواطن الصالح، بعيد كل البُعد عن الأنموذج القرآني، فأصلحُ الناس أنآهم، عن تحمل المسؤوليات!! وأبعدهم عن الأمر، بالمعروف والنهي عن المنكر!! وبكلمة مختصرة: صار أصلح الناس، أكثرهم انحسارًا، وإقبالاً على خويصة نفسه، وهذا تجانف صارخ عن قيم الإسلام، الذي جعل هذه الأمة، خير أمة أخرجت للناس، لأنها أمة تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح: (مَن رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان )(30).
فلما ساد هذا الوضع، بعد مقاومة، أُطيح فيها برؤوس خيِّرة، من المؤمنين، كالحسين بن علي، رضي الله عنهما، وعبد الله بن الزبير، رضي الله عنهما، وسعيد بن جُبير رحمه الله، وغيرهم... أسلم الأمراء، لأنفسهم، ولغرائزهم، وأهوائهم، أسلموا لسكرة السلطان، فتسلطوا على المسلمين، عامتهم وخاصتهم... فنشأ ما يسمى بفقهاء السلطان والبلاط، يفتون تحت الضغط والسَّورة، ضغط السلطان، وسَورة المال، لذا وجدنا علماء السلف، يهربون مما قد يؤدي إلى هذا الوضع، فالإمام مالك أَبَى' وقال: (العِلم يؤتى إليه ولا يأتي )(31). وقال لرسول المهدي، حين طلب منه، أن يرافقه: (أقرئ أميرَ المؤمنين السلام، وقل له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون )(32).
والإمام سفيان الثوري أبى'، وفَرَّ ليجاور الكعبة، وكان يلوم شُريكًا القاضي، على تَوَلِّيهِ القضاء، بل كفَّ عن مكالمته، وقال له قولته المشهورة: (والله، لا يَراني الله أُكَلِّمُك، أو تترك ما أنت فيه )(33)، يقصد القضاء.
نشأ إذن فقه المجتمع ومؤسساته، بعيدًا عن المجتمع، وانطلاقًا من الرأي الواحد، والفهم الواحد، فقه الدولة، وفهم الدولة، فلم يُبْرَد ويشحذ بالمناظرات والحوارات والرسائل، شأن فقه الأفراد (فقه العبادات بشكل عام )، إذ لم يكن، هَمُّ التنظير للحياة في المجتمع، والممارسات بشتى أنواعها، التي تجري فيه، وهَمُّ استنباط الأحكام الخاصة بذلك، هَمُّ المجتمع، وفقهائه، بل بقي هَمُّ الدولة ،وفقهائها فقط.
وهذا سبب هام، من أسباب فقر هذا الفقه، وضموره، وقلة مصداقية ما هو موجود منه، مما ينبغي، أن يُتجاوز، ويستدرك، وإنني لأميل إلى الاعتقاد بأن هذا التجاوز، وهذا الاستدراك، لا يمكن إطلاقًا، أن يتم خارج المعترك السياسي، وخارج إطــار تحمـــل أمانات، ومســؤوليات، حقيقـــية -قَلَّت أم كَثُرَت- من مسؤوليات الأمة، من قِبل مؤمنين بهذا الدين، معتقدين بصلاحية شريعته، لتأطير حياة الناس، في كل مصر وعصر، بل أكثر من ذلك معتقدين، بوجوب تأطير حياة الناس بشريعة الله، وإلا فلن تعدو الاجتهادات، أن تكون نظرية علوية، مطلقة، متجانفة عن الإشكالات الحقيقية، الموجودة في المجتمعات المشخصة والعينية، التي تحتاج إلى اجتهادات خاصة بها.. وهي اجتهادات لا غرو، سـوف تـكون عقب سِيَر في الأرض، ونظـر في تجـارب الآخـرين، واسـتفادة منها.
تعليقات
إرسال تعليق