الإسلام وهموم الناس » خامساً : الســـبب الواقعــــــي-(المكتبه الاسلاميه)أسرة القطاوى

خامساً : الســـبب الواقعــــــي

إن أثر الواقع، في شل حركة المسلمين، والحيلولة بينهم، وبين ارتياد آفاق عباد الله، بتبني هموم أمتهم، كما مر بيانه، أمر لا يخفى، وسوف نتناول، أثر الواقع، في تجميد فعالية المسلمين بهذا الخصوص، من جانبين: جانب له صلة، بممارسات الاستبداد في الأمة، في مختلف مستوياتها، وآثار ذلك، وجانب له علاقة، بفُرقة الشعوب، وآثار ذلك، وهما على كل حال جانبان، ينبني الواحد منهما على الآخر.

الأول : الاســــــتبداد

الاستبداد، نتيجة، وسبب، في آن واحد، فالانحراف عن جَادَّة العدل، وتخلي المسلمين عن عزتهم، وتكافلهم، وتعاضدهم، يُورثه، وهو يتسبب في عرقلة الأمة، عن السعي نحو الانعتاق، وطلب المعالي، والانطلاق، إذ يحيلها أمة متشاكسة، يثقل بعضها بعضًا، عن كل محاولة، لارتياد آفاق العزة، والسؤدد، فـ (الاستبداد، داء الأمة الدفين، كما سماه عبد الرحمن الكواكبي، منذ قرن، حين كتب كتابه (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد )، إذ هو داء يَحْرِم الأمة الإفادة ،من مختلف قدراتها، وطاقاتها، ويختزلها في فرد، أو في مجموعة، عوض أن تكون خلية نابضة بالحياة، يتعاون، ويتكافل، كل أفرادها، ويعرف كل منهم وظيفته، ويقوم بها، ويتحمل مسؤوليته، وينصح لأمته، ما وسعه النصح.. فالأمة الناجحة، هي التي تعرف كيف تفيد، من كل إمكاناتها، وتوفق إلى إفراز آليات، تنظم ذلك وتضبطه.



الاستبداد هو إلغاء الآخر، وتقليص كيانه، في ذات، لا تملك إلا أن تطيـــع ، وتتبــع: {قــال فرعـون ما أريـــكم إلا ما أرى وما أهــديـــكم إلا سبيل الرشاد } (غـــافر:29)، مما يحبس دفق الشهود الحضاري، عن الوصول، إلى كل أوصال الأمة، ويرفع عن الآراء، نعمة التشاحذ والتبارد والتهاذب، وهي بوتقة تنصهر فيها الآراء، ليبرز إبريزها، ويُنفى زَبَدُها، فتتسم الحياة بالركود والجمود، تبعًا لذلك، لأن الإنسان يجرد من أهم خصائص إنسانيته، وهي المسؤولية، ويتسحيل كائنًا تنفيذيًا ذليلاً، شأن الأنعام.

المستبد يرى الآخرين أقل منه شأنًا، ودرجة، ووعيًا، إما بدافع سيادة وتأله، أو بدافع غيرة وأبوة، النتيجة على كل حال واحدة، إذ ينتج عن الدافعين معًا، نوع إحساس بالاستغناء، عن الآخرين، ونصحهم، ومشورتهم، وتجاهل لإرادتهم، وطموحهم، وهذا شعور، يشكل المدخل الأوسع إلى الطغيان، يقول الله عز وجل: {كـــلا إن الإنسان ليطغى أن رآه اســــــــــتغنى } (العلق:6-7).

قد يكون هدف المستبد في منطقة نبيلاً، ولكنه يفقد نبله بالممارسة القاتلة، التي تصاحب عملية تحقيقه، كمن يقتل مريضه وهو يغالبه ليسقيه الدواء، وهذه أبهى صور الاستبداد!!

الاستبداد اليوم، داء ينخر كِيان أمتنا، في كل المستويات، قد امتزجت به كل ذرة من ذراتها، فما من خيط من خيوط شبكة العلاقات الاجتماعية -على حد تعبير ابن نبي، رحمه الله- إلا وهو منصبغ بالاستبداد، الزوج مع زوجته، والأب والأم مع أبنائهما، والذكور مع الإناث، والكبير مع الصغير، والغني مع الفقير، والمدير المستخدِم مع الأجير المستخدَم، والحاكم مع المحكوم، والرئيس مع المرؤوس، والقديم مع الجديد، والقوي مع الضعيف، والشريف مع المتواضع النسب، والمعلم مع المتعلم.. مما لو ذهبنا نتتبع تفصيلاته، فلن نفرغ من قريب.

ومن هنا كان حصر الاستبداد، في الحكام فقط، خطأ كبيرًا في التشخيص، لأنه ليس موجودًا فقط، في حكوماتنا، بمختلف وزاراتها، أو في الأجهزة القضائية، والأخرى التنفيذية، بل هو موجود في معاملنا، ومتاجرنا، ومراكزنا الثقافية، وشوارعنا، والأدهى، والأمر، من هذا كله، الاستبداد موجود -وكما قلنا- في بيوتنا! وإنما الاستبداد في الحكام، يكون له بالغ الأثر، لأنهم محل قدوة من جهة، ولأنهم يملكون وسائل ممارسة الاستبداد، وإخراجه من مكامن النفوس، إلى مظاهر الواقع، من جهة ثانية، وإلا فالاستبداد، لا يمضي في أمة، إلا إذا تحول إلى قيمة مجتمعية، وكان في النفوس قابلية له، من فسق ودنية وغيرهما، قال تعالى حكاية عن فرعون مع قومه: {فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين } (الزخرف:54).

وقد راجت في الأمة مفاهيم، أحدثت القابلية للاستبداد، في أذهان المسلمين، فاستتب هذا الداء بالتالي، في واقعنا، بحيث (وجد لديهم تراث فكري، وثقافي، غير قليل، يؤصل لهذه الانحرافات، ويحدد أو يصادر الحريات... ولعل بعض هذا التراث، ما أدرج تحت (سد الذرائع)، (والأخذ بالأحوط)، فلطالما أساء الناس فَهْم هاتين القاعدتين، أو الأصلين، وما أكثر ما أساء فقهاء الطغاة بخاصة، استخدامهما، بعد أن نقلوهما، من إطارهما، وميدانهما الفقهي الخاص)(1)، إلى المجال الحياتي الأوسع، ليبركوا بكَلْكَل قوة الطغاة، على عقول المسلمين، فيمنعوها من أن تبدع، وعلى ألسنتهم، فيحبسوها من أن تجهر بالحق، ويوثقوا أيديهم، من أن تجاهد.

ومن منطلق: (سد ذرائع الفتنة)، أو (سد ذرائع الفُرقة)، منحت الشرعية لإمامة المتغلب، وأصبحت إمامة أهل الجور، والجبر، مشروعة أيضًا، وأحكامهم نافذة، منذ وقت مبكر في تاريخنا، لتتهيأ الأمة، لقبول أحكام انقلابات العساكر والشُرَط... ولم ينكر إلا القليل من صالح العلماء، وبأصوات خافتة، غير مسموعة -إلا نادرًا- هذه الأحوال..


وتحت سيف وسلطان (سد الذرائع)، و(الأخذ بالأحوط)، عاشت أمتنا، في ظل قوانين طارئة دائمة، فعطَّلت قواعد نظامها السياسي، منذ الانقلاب، على الخلافة الراشدة... ولم يَسْلَم النظام القضائي، من محاولات الطغاة، إساءة استعماله، والانحراف به... الاستبداد، والظلم، والطغيان، الذي مارسه، هؤلاء المتغلبون، قديمًا وحديثًا، قد فرَّق كلمة الأمة، ومَزَّق وحدتها، وحَوَّلها إلى فِرق، يتقاسمها الطغاة، ليضربوا بعضها ببعض، وهكذا أدى الاستبداد، وحرمان الناس من حق الرأي، والتفكير، والتعبير عنه، إلى هدم سائر مقومات الأمة، والقضاء عليها)(2).

هذا من الناحية السياسية، ومن الناحية العلمية الثقافية، فقد راجت أيضًا، مفاهيم أدت إلى شيوع الاستبداد العلمي، ولندع أبا الفرج، عبد الرحمن بن الجوزي، يتحدث عنها، حديث مستبصر، إذ يقول رحمه الله: (وقد لَبَّس إبليسُ، على أقوام، من المحكمين، في العلم والعمل... فحَسَّن لهم الكِبْرَ بالعِلْم، والحَسَد للنظير، والرياء بطلب الرئاسة، فتارة يريهم، أن هذا كالحق الواجب لهم، وتارة يقوي، حُبَّ ذلك عندهم وقد يدخل إبليس على هؤلاء، بشبهة ظريفة، فيقول: طلبكم للرفعة ليس بتكبر، لأنكم نواب الشرع، فإنكم تطلبون إعزاز الدين، ودحض أهل البدع، وإطلاقكم اللسان في الحساد، غضب للشرع، إذ الحساد، قد ذموا من قام به... وكشف هذا التلبيس، أنه لو تكبر متكبر، على غيرهم، من جنسهم، وصعد في المجلس فوقه، أو قال حاسد عنه شيئًا، لم يغضب ذلك العالِم لهذا، كغضبه لنفسه، وإن كان المذكور من (نواب الشرع)، فعلم، أنه إنما يغضب لنفسه لا للعلم )(3).

ثم قال ابن الجوزي: (وعلاج هذا -لمن وفق- إدمان النظر، في إثم الكِبْر، والحسد، والرياء، وإعلام النفس، أن العلم لا يدفع شر هذه المكتسبات، بل يضاعف عذابها، بتضاعف الحجة بها، ومن نظر في سير السلف، من العلماء العاملين، استقل نفسه، فلم يتكبر، ومن عَرفَ الله لم يُراء، ومن لاحظ جريان أقداره على مقتضى إرادته، لم يحسد )(4).. فنشأت بناء على ما مر، فِـرَقٌ، ينتصر كل منها لرأيه، ويهاجم المخالفين، بل، وقد يحض على قتلهم، كما حدث في فتنة خلق القرآن.. وبما أن عموم الناس، تبع لحكامهم، وعلمائهم، فقد تفرَّقت الأمة سياسيًا، وعلميًا، من جراء أخلاقيات الحكام والعلماء، السابقة الذكر.

وقد التفت مالك بن نبي -رحمه الله- إلى هذه المسألة التفاتة لوذعية، فنص ضمن كتابه: (ميلاد مجتمع)، في فصل سمَّاه: (المرض الاجتماعي)، على كون تفشي الاستبداد، نذيرًا بهلاك الأمم، وذهاب ريحها، فقال: (قبل أن يتحلل المجتمع، تحللاً كليًا، يحتل المرض جسده الاجتماعي، في هيئة انفصالات، في شبكة علاقاته الاجتماعية... وهذه هي مرحلة التحلل البطيء، الذي يسري في الجسد الاجتماعي، بيد أن جميع أسباب هذا التحلل، كامنة في شبكة العلاقات، فلقد يبدو المجتمع في ظاهره ميسورًا ناميًا، بينما شبكة علاقاته مريضة، ويتجلى هذا المرض الاجتماعي، في العلاقات بين الأفراد، وأكبر دليل على وجوده، يتمثل في ما يصيب (الأنا) عند الفرد، من (تضخم)، ينتهي إلى تحلل الجسد الاجتماعي، لصالح الفردية، عندما يختفي (الشخص)، أو خاصة عندما يسترد (الفرد) استقلاله، وسلطته في داخل الجسد الاجتماعي .

فالعلاقات الاجتماعية، تكون فاسدة، حينما تصاب الذوات بالتضخم، فيصبح العمل الجماعي المشترك صعبًا، أو مستحيلاً، إذ يدور النقاش حينئذ، لا لإيجاد حل للمشكلات، بل للعثور على أدلة وبراهين.

في حالة الصحة، يكون تناول المشكلات، من أجل علاجها هي، أما في الحالة المَرَضِيَة، فإن تناولها، يصبح فرصة لتورم (الذات)، وانتفاشها، وحينئذ يكون حلها مستحيلاً، لا لفقر في الأفكار، أو الأشياء، ولكن لأن شبكة العلاقات، لم تعد أمورها تجري على طبيعتها)(5).

وقد أثبت التاريخ، أن الذوات، لا تصاب بالتضخم، في المجتمعات، فيشيع الاستبداد، إلا حين تغفل عن المشروع، الذي نشأت من أجل تحقيقه، أو تفقد الإيمان به، ومعلوم أن عجينة المجتمعات الأصلية، وتركيبتها، تكون استجابة لمقتضيات، تحقيق المشروع المنطلق، وكل ابتعاد عن هذه الاستجابة، نذير بانتهاء المجتمعات المعنية.. فحين فقد السوفيات الإيمان بمشروعهم، انحسر مد السعي، من أجل تحقيقه، وترهلت شبكة العلاقات الاجتماعية، وانتصرت الفردية، فذهبت ريح المجتمع السوفياتي.

هذا نموذج فقدان الإيمان، وأما نموذج الغفلة، فمتمثل في المجتمع الإسلامي، فقد تضخمت الذوات، وتَفَشَّى' الاستبداد، حين تمت الغفلة عن المشروع، الذي وُلِدَ المجتمعُ الإسلاميُ، من أجل تحقيقه.

حين الإيمان بالمشروع، والالتحام به، تذوب الذوات في بعضها، ويصبح الإنسان شخصًا له شخوص حضاري، ولا يبقى مجرد فرد، له متطلباته الجثمانية، فحسب، فينصهر في المجتمع، دون أن تضيع خصوصياته، ولا حقوقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنُ للمؤمنِ كالبنيان يَشُدُّ بعضُهُ بَعضًا، وشَبَّك بين أصابعه )(6)، فتلتحم الذوات ببعضها، وتعمل، بتعاضد، من أجل رفع بناء المشروع الحضاري الإسلامي في الأرض، ليكون الدين كله لله، لأن مفهوم التضحية، يولد بعد أن يتضح القصد، وهو مرضاة الله، وتُعلَمُ حقيقة هذه الحـــياة، وأنها مجــرد مَعْبَر إلى الآخرة، فهي لا تعدو كونها مجال امتحان وابتلاء: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً } (الملك:2)، وأن الدار الآخرة، لهي الحيوان، لو كانوا يعلمون، وهي دار لا تكون، إلا للذين لايستبدون، ولا تتـــورم ، أو تتضخم ذواتهم ،على حساب الآخرين ، قال تعالى: {تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين } (القصص:83).

ولخطورة هذا الداء، على حياة الأمم، فقد حاربه الإسلام، فضلاً عن كون المنهج، الذي يبني به المجتمعات، رافضًا في أساسه للاستبداد والتسلط.. وهذه الحرب، كانت من زاويتين: زاوية التأصيل العقيدي، وزاوية التشريع العملي، قصد إعطاء الأمة كرامتها.

أما من زاوية التأصيل العقيدي، فقد حمل القرآن الكريم، على الطغاة والمستبدين، فقال تعالى: {كــــذلك يطبع الله على كل قلب متكــبر جبار } (غـــافر : 35) ، وقـــــال ســـــبحانه: {واستفتــحوا وخاب كل جبار عنيد } (إبراهيم:15)، وحمل على الأعوان المباشرين، من كبارٍ مثل هامان وقارون، أو صــــغارٍ مثل جنود فرعون، فقال تعالى: {إن فرعــــــــون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين } (القصص:8)، وقال عز وجل: {فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين } (القصص:40).

ومن ناحية ثالثة، حمل على الشعوب، التي تسلم قيادها للطغاة، دون أن تسألهم لِمَ ? أو كيف ? بله أن تقول: لا، بملء فيها، فقد ذم عز وجل، قوم نوح على لسانه، بقوله: {رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا } (نوح: 21)، قال ابن الجوزي في تفسير هذه الآية: (قال المفسرون: المعنى أن الأتباع والفقراء، اتبعوا رأي الرؤساء والكبراء )(7).

وذم سبحانه قوم هود بقوله: {واتَّبَعُوا أمر كل جبار عنيد وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة } (هود:59-60)، وذم قوم فرعون، فقـــال عـــز من قـــائــــل: {فاســــتخف قومـــه فأطــاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين } (الزخرف:54).

وعرض لنا القرآن صورًا جَمَّة من مشاهد الآخرة، وفيها يتلاوم السادة والكبراء، والمُضِلُّون وأتباعهم المُضَلَّلُون، ويتبرأ بعضهم من بعض، ويلعن بعضهم بعضًا، ويحاول كل فريق، أن يلقي بالتبعات على الآخر، ولكن الله يحكم على الجميع، بأنهم من أهل النار: {يوم تقلب وجوهم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا. ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنًا كبـــيرًا } (الأحزاب:66-68)، {إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب. وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } (البقرة:166-167)(8).

وأما من زاوية التشريع العملي، فسنوضح ذلك عبر نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: جاء في كتاب الله، وسنة مصطفاه صلى الله عليه وسلم، البيان، بأن شرع الله، هو الأعلى، وأنه لا طاعة لمخلوق، في معصية الخالق، كما جاء فيهما البيان، بوجوب الحكم، بما أنزل الله، فقال عز من قائل: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } (المائدة:44)، وقال سبحانه: {ومن لم يحـــكم بما أنزل الله فــــأولئك هم الظــالمون } (المائدة:45)، وقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون } (المائدة:47)، مما يجعل الأمة، حكامًا ومحكومين، ملزمة بأن تراقب سريان هذه الأحكام فيها.. وجبت الإشارة هنا ، إلى كون الأمة وحدة، وأنها توكل بعض أبنائها، ليشرفوا على تسيير شؤونها، محتفظة بحق عزلهم، متى تجانفوا عن شرع الله، أو لم تبق كفاءاتهم مواكبة، لحاجيات الأمة، ومقتضيات المرحلة التي تعبرها.

أمَّا الفصل الذي درج عليه الناس، بين الحكام والمحكومين، وكأنهما جسمان منفصلان، فليس بأصيل، وإنما هو دخيل من الحضارات الأخرى، كالفرعونية والساسانية، والهندية، وغيرها، والتي كان الحكام فيها، يعتبرون آلهة، فهم جسم منفصل، متميز عن أممهم، التي يحكمونها، أو الحضارتين اليونانية والرومانية، التي كان الحكام فيها سادة، والرعية عبيدًا، مما يفضي، إلى نفس نتيجة الانفصال والتمايز، بين الحكام والمحكومين.. أما في التصور الإسلامي، فالأمة وحدة، وهي تنتقي من أبنائها أكفأهم، وأنسبهم، لسياسة أمورها، ولكنه يبقى من أبناء الأمة، الأصل فيه، أن لا ينفصل، أو يتميز، بمسكن، أو بلباس، أو غيره..

كذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدون من بعده، والشواهد على ذلك، أشهر من أن نطيل بسوقها هنا، وإنما رخص أمير المؤمنين عمر لمعاوية، رضي الله عنهما، في تحسين لباسه، لأنه كان مُتَاخِمًا للروم، وهم أهل مظاهر، فإعزاز الإسلام -حسب اجتهاد معاوية- يقتضي اهتمامه بالملبس، ولكن حكام الأمة، غلوا بعد ذلك في هذا الأمر، غلوًا كبيرًا، وقلبوها ساسانية، فتميزوا عن الناس، بكل أنواع التميز، مما أحدث هذه الهوة المقيتة، بين الشعوب والحكام، وهي هوة طارئة، لا أصل لها في التصور الإسلامي(9)، وهو ما تفَطَّن له عُمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فشرع بردم هذه الهوة، إلا أن أجله، وافاه قبل أن يبلغ الغاية.

إن الحكم في الإسلام، ليس مغنمًا، وإنما هو تكليف إضافي، وقد يكون ندامة ومغرمًا في حالة التفريط.

والواجب اليوم، تخليص تراثنا الفقهي التأصيلي، من عُقدة الانفصام النكد هذه، بين الأمة، ومن وكلتهم، ليسوسوا أمرها، فهم أبناء الأمة، وهي التي تنصبهم، ولها الحق في عزلهم، متى رجح ذلك شرعًا.. فالكلام عن الحكام والمحكومين، ينبغي أن يكون كلامًا عن أجزاء جسم واحد، ذي هموم واحدة، لكلٍ فيه وظائفه، وليس كلامًا عن أجسام، متنابذة، منفصلة، لكل منها همومه وأهدافه.

النقطة الثانية: اتفق المسلمون، على أن الإمامة عقد، وأن الشورى'، أساس المشروعية.. قال القرطبي: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب، وذلك في الآراء كثير، ولم يكن يشاورهم في الأحكام، لأنها مُنَزلة من عند الله، على جميع الأقسام، من الفرض، والندب، والمكروه، والحرام.. فأما الصحابة فكانوا يتشاورون في الأحكام، ويستنبطونها من الكتاب والسنة، وأول ما تشاور فيه الصحابة الخلافة، وتشاوروا في أهل الرِّدَّة، وتشاورا في الجَد وميراثه، وفي حد الخمر وعدده، وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب... وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أمراؤكم خيارَكم، وأغنياؤكم سُمَحَاءَكم، وأمرُكم شورى بينكم، فَظَهْر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم أشرارَكم، وأغنياؤكم بخلاءَكم، وأمورُكم إلى نسائكم، فبَطْنُ الأرض خير لكم من ظَهْرِها ) قال: حديث غريب(10).

قال ابن عطية: (ومَدحَ تعالى القوم، الذين أَمْرُهُم شورى' بينهم، لأن في ذلك، اجتماعَ الكلمة، والتحابَّ، واتصالَ الأيدي، والتعاضدَ على الخير، وفي الحديث: (ما تشاور قوم إلا هُدوا لأحسن ما بحضرتهم )(11)، وقال أيضًا في تفسير قــوله تعـــالى: {وأَمْرُهُم شُورى' بينهم } (الشورى:38).. والشورى من قواعد الشـــريعة، وعزائم الأحـــكام، ومن لا يســتشير أهل العــلم والدين، فعـــزله واجب، هذا ما لا خلاف فيه)(12). فذهب رحمه الله إلى إيجاب الشورى، وإيجاب عزل من يتركها من الحكام، ونقل عدم الخلاف في ذلك.

وقال الزَّجاج في تفسير قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم }: (المعنى: أنهم لا ينفردون برأي حتى يجتمعوا عليه)(13).

فالشورى تعصم الأمة، من أن يظهر فيها مستبدون، وتعصمها من الزيغ، والانحراف عن الجادة، فعن أبي ذر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اثنان خير من واحد، وثلاثة خير من اثنين، وأربعة خير من ثلاثة، فعليكم بالجماعة، فإن الله عز وجل لن يجمع أمتي إلا على هدى )(14)، ومقتضى ما سبق، أن الحاكم إذا أخلَّ بموجب العقد، الذي بينه وبين أمته، وأصرَّ على غَيِّهِ، وجب عزله.

النقطة الثالثة: واجب المراقبة والتقويم، وهو واجب، ملقى على عاتق الأمة، فقد أوجب عليها الباري، الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومراقبة الحكام، وتقويمهم.. ولن أسهب بذكر الآيات والأحاديث، التي تحث على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فبحسبنا أن نستدل لواجب الأمة في مراقبة الحكام بما يلي:

1- أخرج مسلم في كتاب الإيمان، من حديث عبدا لله بن مسعود، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من نبـي بعثه الله في أمـة قبلي، إلا كان له حواريون وأصحاب، يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنها يخلـــف بعدها خُـلُوف، يقولون ما لا يفعـــــلون، ويفعــــلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خَرْدَل )(15).

2- أخرج أبو داود، والترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الجهاد، كلمة حق عند سلطان جائر )(16).

3- لقد وَعَى' خلفاء رسول اللهصلى الله عليه وسلم، هذه المسألة وعيًا عميقًا.. وأكتفي ههنا بالاستشهاد بمواقف وكلمات لكلٍ من الراشدَيْن أبي بكر وعمر، رضي الله عنهما، مما قد مر معنا بعضه:

( أ ) يصدع أبو بكر، رضي الله عنه، في أول خطبة، بعد أن ولاّه المسلمون الخلافةَ، بالكلمات المشرقات الآتيات: (يا أيها الناس! إني قد وُليت عليكم، ولست بخيركم، إن أحسنتُ، فأعينوني، وإن أسأتُ، فقوِّمُوني.. الصدق أمانة، والكذب خيانة.. أطيعوني ما أطعت الله ورسولَه، فإذا عصيتُ الله ورسولَه، فلا طاعة لي عليكم )(17)، فيرسخ رضي الله عنه بهذه الكلمات، حقيقة خطيرة في العقل الجمعي للأمة، وفي وجدانها، وهي، أن المسؤول عن الأمة، ليس بخيرها، وإنما هو واحد من أبنائها -كما مر بيانه آنفًا- وأن طاعته، إنما تندرج تحت طاعته هو، لله ورسوله، وانضباطه، لتعاليم هذا الدين، إذ أبناء الأمة جميعًا، أمناء على مشروع أن يصبح الناس لربهم عابدين، وهم متعاونون عليه، ومن هنا كان الحكم مسؤولية مشتركة، بين أبناء الأمة جميعًا.

إن أبا بكر، رضي الله عنه، يربط بهذه الكلمات، الأمور بأصولها، فيربط الدولة في الإسلام، بوظيفتها العقيدية، وهي (وظيفة أصلية، سواء من حيث إطارها القيمي، أو مبادئها، وأشكالها النظامية، أو ممارساتها الواقعية العملية.. تؤكد ذلك الأوامر المنزلة من جانب، والخبرة التاريخية، من جانب آخر، وأن هذه الوظيفة، هي الوظيفة المحورية، والحاكمة، لباقي وظائف الدولة الإسلامية، وبالتالي، يترتب على إنجازها بفاعلية، فاعلية قيامها بباقي وظائفها )(18).

ومن هنا ،فإن أبا بكر رضي الله عنه، قد وضع الأمة، على جادة الطريق، فيما يخص هذه القضية، حين حملها مسؤوليتها في مراقبته، ونص على أن طاعتها له، مرتبطة بطاعته هو، لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم: (إن أحسنتُ، فأعينوني، وإن أسأتُ، فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، أطيعوني، ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسولَهُ، فلا طاعة لي عليكم ).. (إنه رضي الله عنه، يريد أن يكون الحكم معادلة متكافئة، بين الحاكم والمحكوم، الطرفان يتحملان مسؤوليتهما، ويشاركان فيها بالفعل، والاجتهاد، والنقد، والرقابة الدائمة، وهو بالتالي، يريد أن ينمي الحس النقدي، ومسؤولية الرقابة، في نفوس أبناء أمته، فليس إلا في فترات الاستيلاب السياسي، أمة لا تَنْقُد حكامها، أو تراقبهم، ولا تقول: "لا"، حيث يجب أن تقال... )(19).

ب- وهذا عمر، رضي الله عنه، يخطب يومًا، على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في المسجد النبوي الشريف، فيقول: (يا معشر المسلمين! ماذا تقولون، لو ملت برأسي إلى الدنيا هكذا ? ( وأمال رأسَه)، فقام إليه رجل، فقال: أجل، كنا نقول بالسيف هكذا (وأشار إلى القطع)، فقال عمر: إياي تعني بقولك ?! قال الرجل: نعم، إياك أعني بقولي، فقال عمر: الحمد لله، الذي جعل في رعيتي، من يُقَوِّمُني، إذا اعْوَجَجْت)(20).

وقال حذيفة رضي الله عنه: (دخلتُ على عُمر يومًا، فرأيته مهمومًا حزينًا، فقلتُ له: ما يهمك يا أمير المؤمنين ? قال: إني أخاف، أن أقع في منكر، فلا ينهاني أحد منكم تعظيمًا.. قال حذيفة: والله لو رأيناك، خرجتَ عن الحق، لنهيناك.. فسُرَّ عُمر وقال: الحمد لله، الذي جعل لي أصحابًا، يُقَوِّمونني، إذا اعوججت )(21).

وعن الحسن بن علي، رضي الله عنهما، قال: (كان بين عمر، وبين رجل كلام في شيء، فقال الرجل: اتق الله، فقال أحد الجالسين: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله ?! فردَّ عمر: دعه، فليقلها لي، فلا خير فيكم، إذا لم تقولوها، ولا خير فينا، إذا لم نقبلها )(22).

لقد سهر عمر، رضي الله عنه، على توفير المناخ الملائم، لرقابة الأمة، على حكامها، (فبينما قطعت فيها، أشد الجماعات ديمقراطية، خطوة واحدة، قطع هو فيها، خطوتين، إذ أنه لم يكتف، بإتاحة المجال الواسع، لأبناء أمته، أن يعترضوا، وإنما حثهم حثًا، ودفعهم دفعًا، إلى الاعتراض، وكان يهمه، ويشغل باله، أن تفقد أمته، إحساسها العميق بالحرية، وأن لا تتشرب دماؤها، أحاسيس النقد والرفض، حيث يتحتم، أن يُنقد عمل ما، ويُرفض، إذا اقتضى الأمر )(24).

يتبين لنا مما سلف، كيف أن الأمة، قد حَصَّنَها بَارِيها، ومُخْرِجُها للناس، من داء الاستبداد، بحصون متعددة، ولكنها، قد ذَهَِلَت عنها، فشأنها في ذلك، كشأن من يلحس الثَّرَى' عَطَشًا، والأنهار تجري من حوله، وإنه ليسير، أن نرمي الأمة بالغفلة، والجهل، والخمول، والجمود، وسائر أوصاف القدح، غير أن القَدْحَ، والسِّبَابَ، لم يكونا في يوم من الأيام، ليكفيا مؤنة العمل والكد، لتغيير ما بالأمة، من مذلة، ومهانة، إلى واقع العزة، والسؤدد، والشهادة على العالمين.

وإن الطريق ليبدأ، بتجديد عقيدة الأمة، وتجديد إيمانها، وضبط تصوراتها ومفاهيمها، وتصحيح أنواع العلاقات السائدة، بين أفرادها، لينصلح العمل، تبعًا لذلك، فالتصورات أصل، والسلوكات فرع.. وإنه لوَرْشٌ حضاريٌ لاَحِبٌ، يحتاج إلى كفاءات متعددة ومكوَّنة، وإلى تخطيط محكم، وعمل تنفيذي متواصل، ومتابعة متعقبة، وتقويم مستمر.. والله المستعان.

الثــــاني : الفُـــــرْقــــــــة

الأمة اليوم أجزاء ومُزع، تمزقها الحدود، والفوارق المصطنعة، والمشاكل المختلفة، وإنها لأخاديد يُحرَس على تعميقها، يومًا بعد يوم، وتوضع البرامج والتخطيطات، وترصد أجهزة التنفيذ والمتابعة، من أجل تحقيق هذا التعميق، وما اتفاقية (سايكس بيكو) وما تلاها، منا ببعيد.

إن واقع التفتيت، الذي تعيشه الأمة، لم يحل بساحنا اتفاقًا، وإنما هو واقع، تم التفكير في إحلاله، واتخذت التدابير اللازمة لذلك، ومنذ وقت مبكر، يمكن إرجاعه، إلى القرن السادس عشر، حين بدأ البرتغالي (هنري الملاح)، أبحاثه في قلعته الشهيرة، عن كيفية أكل الكتف الإسلامية، ثم تلت ذلك اتفاقيات (طورتوزلاس)، بين البرتغال، وإسبانيا، من أجل الإحاطة بالعالم الإسلامي، قصد إضعافه، وتجريده من ميزة التفرد، باحتواء الطريق التجارية، الواصلة بين المشرق والمغرب، بتجاوزه، والمرور على طريق، رأس الرجاء الصالح.. ثم تلت ذلك الاتفاقيات المتعددة، بين روسيا، وفرنسا، والنمسا، وإنجلترا... إلى أن جاء الاستعمار الحديث، الذي تَمَكَّنَ، بشكل شبه كلي، من العالم الإسلامي، فقسمه حسبما يراه ضامنًا لمصالحه، وأقام وسائل استمرار ذلك.

ولئن كان مالك بن نبي -رحمه الله- قد تحدث عن القابلية للاستعمار، فإنه يحق لنا، بصدد تحليلنا لظاهرة الفُرقة، في الأمة الإسلامية، أن نتحدث عن القابلية للفُرقة.. فكما للفُرقة في أمتنا، أسباب موضوعية، فإن لها -وهي الأسبق- أسبابًا ذاتية، وهي التي بملكنا السعي إلى رفعها ابتداء.

إن ما حدث في العالم الإسلامي، من تمزيع، وتفريق، من لدن الغرب، لم يكن سوى تثمير لخميرة الفُرقة، التي وجدت في الأمة، من جراء، ترهل شبكة العلاقات الاجتماعية، التي كان سداها ،ولُحُمتها، التوجيهات، والأخلاق، والقيم الإسلامية.

وفي الصفحات الآتية، سوف نحاول وضع اليد، على بعض أسباب الفُرقة في أمتنا، مكتفين في ذلك بلفت النظر إليها، مع بعض تفصيل، لا يتسع المقام لأكثر منه، ولانحتاج ههنا، إلى التذكير، بأن أمة تنهش كيانها الفُرقة، يستحيل فيها، تبني أفرادها، ومؤسساتها، هموم بعضهم بعضًا، بالشكل المطلوب.

أســـباب الفُــرقـــة :

السبب الأول: اضمحلال الوعي بتوالي الأجيال:

إن توالي الأجيال، بقدر ما يكون مدد قوة، ومصدر تجدد للشعوب، فإنه إن لم يُحسَن التصرف معه، يمكن أن يتحول إلى مصدر اضمحلال، وذهاب لريح المجتمعات.. فالأفكار تكون واضحة، في أذهان الأجيال المؤسِّسة، ويكون هنا دفق حضاري، ولكن إن لم تحسِن هذه الأجيال المؤسِّسة، نقل نُسغ الحضارة، وإنشاء محيط ثقافي، يُمَكِّن من انتقال الأفكار والسجايا، بوضوح، إلى الأجيال التالية، حتى تصير رسالية، بنفس القدر، الذي كان عليه سلفها، فإن الحضارة تضمحل، وشوكة أهلها تُخْضَد، وهذا هو الأمر، الذي برز في تاريخ الإسلام جليًا، حيث رأينا عالمنا الإسلامي، يترنح في مهاوي التخلف، وهو يملك أغنى المكتبات، وأكثر الأفكار نورانية، غير أن هذه المكتبات، وهذه الأفكار، لم تنتقل إلى وجود المسلمين الذهني، بل بقيت على رفوف مكتباتهم، مما حال دون توظيفها في الواقع العيني، وهذا هو المعنى، الذي جاءت إليه الإشارة، في قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا } (مريم:59).

قال ابن خلدون في هذا المعنى: (باني المجد، عَالِمٌ بما عاناه في بنائه، ومحافظ على الخلال، التي هي أسباب كونه وبقائه.. وابْنُه من بعده، مباشر لأبيه، فقد سمع منه ذلك، وأخذه عنه، إلا أنه مقصر في ذلك، تقصير السامع بالشيء، عن المُعَانِي له، ثم إذا جاء الثالث، كان حظه الاقتفاء، والتقليد خاصة، فقصر عن الثاني، تقصير المقلد، عن المجتهد، ثم إذا جاء الرابع، قصر عن طريقتهم جملة، وأضاع الخلال الحافظة، لبناء مجدهم، واحتقرها، وتوهم أن ذلك البنيان، لم يكن بمعاناة، ولاتكلف، وإنما هو أمر وجب لهم، منذ أول النَّشأة، لمجرد انتسابهم، وليس بعصابة، ولا بخلال، لما يرى من التجلة بين الناس، ولا يعلم كيف كان حدوثها، ولا سببها، ويتوهم أنه النسب فقط )(25).

وقد أخرج أحمد وغيره في مسنده، من حديث زياد بن لبيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر شيئًا، ثم قال: (وذلك حين ذهاب العلم)، قال زياد: فقلتُ يا رسولَ الله!: وكيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونُقْرؤه أبناءَنا، وأبناؤنا يُقْرؤنه أبناءَهم ? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثكلتك أُمُّك يا زياد! إن كنتُ لأراك من أفقه رجل بالمدينة! أو ليست هذه اليهود والنصارى يقرأون التوراة والإنجيل، ويُقرؤونهما أبناءَهم، وأبناؤهم يُقرؤونها أبناءَهم، ثم لا ينتفعون مما فيهما بشيء .(26)

إن العلاقات الاجتماعية، التي تكون قائمة، بين أفراد جيل البناة، تكون فيها حرارة، وإيجابية، وتماسك، وهذه مواصفات، تستمد قوتها من وعي الأغلبين، من هؤلاء البناة بالغايات، واستيعابهم للمنطلقات، وتشبعهم بالقيم، واشتراكهم في الثقافة والأفكار.. فيكون النسيج قويًا.. وإذا لم يتم الاهتمام، بنقل هذه الأمور، إلى الأجيال التالية، يحل الاهتراء محل القوة، والصراع محل التعاون، والتنابذ محل التآلف، والتنابز محل الحوار، بل إن هذه القوارض الاجتماعية، في كثير من الأحيان، تورث، ولا سبيل إلى تلافي هذه الأمور، إلا بالوعي بها أولاً، وتشخيصها بدقائقها ثانيًا، ثم تفعيل أداة التربية، ووسائلها، وقنواتها، بما فيها المجتمع، باعتباره المربي الوسيط، الأخطر، ثالثًا.. ولست أحسب المجال ينفسح لتفصيل أكثر في هذه القضايا.

السبب الثاني: تضخم الذوات:

الفُرقة هي الحالة، التي يبلغها المجتمع، حين يفقد خصيصة الانسجام، فيتفرق أفراده ذرات، من جراء تضخم ذواتهم ،عند أنفسهم، فيصبح المجتمع، عاجزًا تمامًا، عن أداء نشاطه المشترك، إذ يتعطل الحوار البناء، المتجه إلى حل المشكلات، ليحل محله النقاش العقيم، الذي يروم إثبات الذات، فيصبح كل الجهد المبذول، مجتثًا عن الواقع العيني، ويضيع هدرًا، في عالم التنافس والتقايس، الخاويين.. حين تضخم الذوات، يرفض كل فرد من أفراد المجتمع، أن يَشْذُِبَ من حجمه، عند نفسه، ولو شيئًا يسيرًا، ليسهل التساكن، ويصبح ممكناً.. إنها ساعة غياب قيم خفض الجناح، والإيثار، والتضحية.. إنها بعبارة أوضح: ساعة الفُرقة، وذهاب الريح.

السبب الثالث: الاستبداد:

لقد قلنا في مقدمة هذا الفصل: إن الاستبداد والفُرقة، كلاهما سبب ونتيجة في آن، وبالفعل، فإن ما عانته، وتعانيه الشعوب الإسلامية، من استبداد حاجر، على حرية الرأي، تحت ذريعة، عدم شق الصف، والحفاظ على الوحدة، يكمن وراءه شروخ كبيرة، في جسم الأمة، إذ الكبت السياسي، في النهاية، وكما يقول الدكتور عبد المجيد النجار: (ليس إلا تخزينًا في الحقيقة، لأسباب الانفجار، الذي لا يلبث، أن يحدث يومًا ما، والشواهد قائمة هنا وهناك، في البلاد الإسلامية، ولو أتيحت حرية التعبير، ولو في شيء من الضبط، لكانت سببًا في التقارب، بين الفئات، والعائلات السياسية، من جهة، وبين الشعوب، والأنظمة الحاكمة، من جهة أخرى، ذلك لأن حرية الرأي، من شأنها أن تفضي إلى مناخ من الحوار، الذي تتدافع فيه الآراء، في تصريف شؤون الأمة، وذلك التدافع، ينتهي في الأخير، إلى قدر مشترك من الاتفاق، يخف به التوتر، الذي يُحدثه الكبت، ويهون فيه الأمر، على من أبدى رأيه، وجادل فيه، حتى ولو لم يكن له إلى التطبيق الواقعي طريق)(27)، وإلا فإن الاستبداد والكبت، يقلبان أفراد المجتمع إلى بواطنهم، حيث الغيظ المتميز، ولا باب للتعبير عن الرأي، إلا الانفجار، كما البراكين، فيتفرق المجتمع، ويطير شظايا.

السبب الرابع: الفقر في القيم:

أصول العلاقات الاجتماعية، هي القيم الثقافية، والأخلاقية، السائدة في المجتمع.. وتماسك المجتمع، وعدم تفرقه، رهين بتوافره على أرضية قيمية صلبة، تضمن وحدته.. والمجتمع الديناميكي، هو الذي تكون عنده قدرة، المحافظة على القيم الإيجابية، وإنتاج قيم جديدة، منسجمة، مع هويته، ومرجعيته العليا، الروحية والفكرية، قيم تكون قَمِينة، بتنظيم العلاقات الاجتماعية، بشكل منضبط، وقابل للتعدية إلى الآخر، من مختلف أجيال، وطبقات المجتمع.

ففي لحظة تاريخية معينة، يكون المجتمع محتاجًا، إلى قيمة التضحية، لمواجهة أخطار مؤكدة، وفي أخرى، يكون محتاجًا، لإشاعة قيمة الإخاء، أو قيمة العلم... فإن لم يكن المجتمع متوافرًا، على آليات، تفعيل، أو إنتاج القيم، فإن الخراب، يدب إليه، ليصير بعد ذلك أحاديث.

وقد شهد التاريخ، كيف أصَّل القرآن الكريم هذه القضية، حين أشاع قيمًا، قَوَّت لُحْمَةَ المجتمع الإسلامي الوليد، من مثل تأصيله لقيمة التضحية، عن طريق الآيات الكثيرة، التي تبين أجر الشهداء، والمنفقين في سبيل الله، والمؤثرين على أنفسهم، ولو كانت بهم خصاصة، وتأصيله لقيمة الإخاء، عن طريق الآيات، التي بينت المساواة، بين أفراد الجنس البشري، ووحدته في المصدر والمآل، ووحدة العدو الأصلي الشيطان، وتأصيله لقيمة التعلم والتعليم، عبر الآيات الحاضَّة على ذلك.. مما استتب في المجتمع الإسلامي، وفي عقل أفراده الجمعي، وقوَّى العلاقات السائدة، فيما بين المسلمين، حتى أوصلها إلى درجة: (مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحُمَّى' )(28)، وبمُضِيِّ الحِقَب، فَقَدَ المجتمع الإسلامي السيطرة، على آليات تفعيل وإنتاج القيم، مما أفضى به، إلى واقع الفُرقة، والتشتت، واستقرار عدد من القيم الاجتماعية السلبية في رحمه... وهذه قضية تحتاج إلى تفكير، من أجل إبراز الآليات، المفعلة للقيم الموجودة، والمنتجة للأخرى المفقودة، والتي يشترط فيها، أن تكون ممكنة ، وفعالة، متلائمة مع الواقع، الذي يراد تشغيلها فيه... ومنسجمة مع مرجعية الأمة العليا: القرآن والسُّنَّة.

السبب الخامس : ألغام استعمارية:

وهي ألغام غرسها الاستعمار، في واقعنا، بوعي، وفنية، كبيرين، فهي تنفجر، أو تُفَجَّر في وجوهنا، لِتُخَلِّف، أوخم الآثار في مجتمعاتنا... وعلى رأس قائمة هذه الألغام، المغرَّبون من أبنائنا، أسرانا الفكريون، أو كما يسميهم، الرئيس علي عزت بيغوفيتش: (الأبناء المدللون)، الذين ضمهم إليه الاستعمار، في مختلف أوطاننا، واستطاع، أن يحدث في نفوسهم الشرخ، الذي انداح منها، وعبرها، إلى المجتمع كله، فقد استطاع الاستــعمار، أن ينشــئ أجيالاً، مجتــثة عن أصــالتها، لا أدوات تحليل لها، منبعثة من كينونتها، ولا لغة، ولا رؤى وتصورات، إلا تلكم الغربية، فأصبـــح هـــؤلاء، لا يســـتطيعون النــظر إلى واقعهــم، إلا بِمُقَل غربية ، وقد شجع على ذلك، تَرَهُّل بنية الثقافة الإسلامية، بتضافر وطأة عصور الانحطاط الشامل، الذي مرت به الأمة الإسلامية عمومًا، ووطأة الاستعمار، فكان هذا القبيل من مثقفينا، يجدون تزكية، لنبذهم للثقافة الإسلامية، في جهلهم بها أولاً، وفي الضحالة، التي يقدمها بها فريق من (العلماء) ثانيًا، وفي السجلات والمؤلفات، التي يطبعها الجمود، والتقليد، والإرهاب الفكري، ثالثًا، ثم في التشويهات، والافتراءات الاستشراقية الغربية والمحلية، التي ألصقت بتاريخها، رابعًا، فحصلت النَّفْرَةُ، نَفْرَةٌ وتباعدٌ، عُضِّدَا بالتقاعس المشترك، عن فهم الآخر، ودراسته بما يكفي، وبطريقة موضوعية، هذا من جهة، ومن جهة ثانية عُضِّدَا، بعدم امتلاك أرضية صلبة من ضوابط الحوار، وأخلاقياته، مما أفسح المجال واسعًا، للإقصاء، والإلغاء، والتنابز، بدل التحاور والتفاهم.. وقد تسبب انفصام جسم الأمة هذا، في مَيَدان أرضية المُسَلَّمَات، التي ينبغي أن يتم إليها التحاكم، في حالة الخلاف، إذ أصبح لكل فريق مرجعيته، التي يصدر عنها، وإنَّ تلافي هذه المشـــكل، لا يمكن أن يتم إلا بتوحيد المرجعية، ولا وَلِيجَة، إلا بالحوار الشفاف، النزيه، العليم، الطالب للحق، المُؤْثِر له عما سواه.

وقد تَقَلَّد كثير من هؤلاء الأسرى الفكريين، أهم وأخطر المناصب، في أوطانهم، فهم لا يزالون ماضين في قرضهم، لخيوط شبكة علاقاتنا الاجتماعية، بوعي، أو بغير وعي، غير أنه -وبفضل الله- بدأنا نرقب بأملٍ أَوْبَةَ العــديــد منهم ، إلى حِمى' دينهم، وأصــــالة أمتهــم، مما يبشر - إن شاء الله - بخير، تبشيرًا ينبغي أن يسر ولا يغر.

وهذه قضية أخرى، وجب التفكير في أساليب ناجعة لمعالجتها.

ومن هذه الألغام، أيضًا البيروقراطية المقيتة، التي خلَّفها الاستعمار، وأخذناها عنه بسذاجة، دون أن نتنبه إلى آثارها السلبية المفرقة، وهي عبارة عن نظم إدارية، كانت منسجمة مع الواقع الاستعماري، لأنها تنظم العلاقة، بين المغتصِب، والمغتصَب، بين المستكبر، والمستضعَف.. حين لم نتنبه لهذه القضية، تجرعنا مرارتها فُرقة، وشتاتًا، وعداءً في مجتمعاتنا، مما يستوجب ثورة إدارية حقيقية، لتلافي هذه السلبيات.

من هذه الألغام كذلك، ما أججه الاستعمار، ويؤججه في عالمنا الإسلامي - ويجد للأسف استجابة، من بعض أبنائنا له - من نعرات طائفية وإقليمية، أسهمت في تشتيت أمتنا، وإيقاظ نيران فتن، وحروب، في مختلف أرجائها، مما ينبغي أيضًا، أن تتخذ الإجراءات اللازمة لمواجهته.

كل ذا، ناهيك عن الإعلام الغربي، المتصهين، الذي لا يلبث قاصفًا لنا، من أجل إحداث المزيد، من أنواع الفُرقة، والخلل، الاجتماعيين.

إن المجتمعات حين تذهب مُزعًا، من جراء الفُرقة، يصبح من المتعسر فيها -وكما ذكرنا آنفًا- تبني الناس هموم بعضهم بعضًا، أفرادًا كانوا، أم جماعات... وقد أشرنا في بداية هذا المبحث إلى أن التوجيهات، والأخلاق، والقيم الإسلامية، تمثل المصدر المكين، لأقوى أنواع التلاحم، والوحدة، بين أفراد المجتمع الإسلامي.

وفيما يلي بيان بعض ذلك، من خلال تناولنا بالدرس في هذا السياق، لا في غيره، لأصل التوحيد في الدين الإسلامي.

الإســــلام دين توحـــيد

التوحيد هو المبدأ الإسلامي، الذي عليه ينبني قوام هذا الدين، فقد جاء الإسلام، بتوحيد الله، وتوحيد الخلق، فالخليقة كل متكامل، لأنها من صِنعة الواحد الأحد، كما جاء الإسلام بتوحيد الإنسانية، فالبشر يرتبطون جميعًا، باعتبارهم مخلوقين، بخالقهم، فجوهر بناء وجود الأشخاص نقي، وخال من اعتـــــبار الخصــــائص العرقـــية والســـلالية.. وهو ما أشار إليه تعالى في قوله: {يا أيها الـــناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير } (الحجرات:13)، فالتعصب العنصري، مثير بطبيعته للشقاق والفُرقة، كما أن وحدة الإنسانية في الإسلام، مفادها، أن جميع أفرادها يشتركون، في تحمل الأمانة، أمانة الاستخلاف في الأرض، قصد تعميرها، وإصلاحها، عبادة لله.

وقد عد الله التفريـــط في الوحــدة، موجـــبًا لعـــذابه، حين قال: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } (آل عمران:105).. وجدير بالإشارة، أن هذه المعتقدات، ليست معلقة، بدون قنوات، تمر بها إلى الواقع، بل يلُفُّها نظام تشريعي شامل، ينزلها على واقع الناس، ويمكِّن لها فيه.

وهذه بعض معالم هذا النظام:

الحض على الإخاء:

فقد حض هذا الدين أتباعه، بنصوص كثيرة، على أن يتآخوا، فجعل الإخاء ثمرة الإيمان في مثل قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة } (الحجرات:10)، وقوله تعـــــالى: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } (التوبة:71): وقال ســبحانه في حــــض المؤمــــنين على التآخي والتلاحم: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًا كأنهم بنيان مرصوص } (الصف:4).. ولعل كون اسم هذه السورة، التي وردت فيها هذه الآية، سورة الصف، أمر له أبلغ الدلالات.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحاسدوا، ولا تباغضوا، ولا تجسسوا، ولا تحسسوا، ولا تناجشوا... وكونوا عباد الله إخوانًا )(29).

وفي حديث أخرجه الإمام أحمد، عن زيد بن أرقم، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول دبر كل صلاة: (اللهم ربَّنَا وربَّ كُلِّ شيءٍ ومَلِيكَه، أنا شهيد أن محمدًا عبدُك ورسولك، اللهم ربَّنَا وربَّ كُلِّ شيءٍ ومَلِيكَه، أنا شهيد أن العباد كلهم إخوة )(30).

وقد امتن الله عز وجل، على رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن خلاله على المؤمنين، بأن ألف بين قلوبهم، فقـال عَزَّ من قائل: {هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم } (الأنفال:62-63).

وبَيَّن صلى الله عليه وسلم أن الأخوة، في المجتمع الإسلامي، عامة وشاملة، حتى للسيد مع عبده، حيث قال: (إخوانكم خولكم ،جعلهم الله تحت أيديكم، ولو شاء جعلكم تحت أيديهم، فمن كان أخوه تحت يده، فليطعمه مما يأكل، ويلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم )(31).

وقد أحاط الإسلام هذه الأخوة، بمجموعة من التدابير الوقائية، فنهى عن السخرية، والتنابز بالألقاب، والإكثار من الظن، والتجسس، والغيبة، وهي أمور، كلها تفتت المجتمعات، وتخلخل بنيانها، فقال سبــحانه: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عســى أن يكونوا خيرًا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرًا منهن ولا تلمزوا أنفسهم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضًا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } (الحجرات:11-12).

ونهى عن العصبية، وتبرأ مِن كل مَنْ يدعو إليها، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية )(32).

وحذر من مكائد غير المسلمين، ودسائسهم، للتفرقة فيما بينهم، فقد أورد غير واحد من المفسرين، أن أحد اليهود غاظه ما رأى عليه المسلمين، من الأوس والخزرج، من ألفة، فألب بعضهم على بعض، حتى حملوا السلاح، وتواعدوا بالحرة، وكادوا يقتتلون، لولا رحمة الله، فنزل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين(100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم(101) يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون(102) واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)}

(آل عمران:100-103).

وحــــذر تعـــالى من الفُــــرقة، والاختــــلاف، فقـــال سبحانه: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } (آل عمران:105).

وأمر تعالى باتباع صراطه المستقيم، فذلك طريق العصمة، من الفُرقة، فقال سبحانه: {وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله } (الأنعام:153).

ونهى عن الخبائث، المفضية إلى الفرقة، والعدواة، فقال سبحانه: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون } (المائدة:91).

وقال تعالى محرمًا السحر: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلـمون } (البقرة:102).

كمــــا أمر تعالى بإصلاح ذات البين، فقال جل شأنه: {فاتقـــوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين } (الأنفال:1).

وقال سبحانه: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون } (الحجرات:10).

وعن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لأبي أيوب، رضي الله عنه: (ألا أدلك على تجارة قال: بلى. قال: (صِل بين الناس، إذا تفاسدوا، وقَرِّب بينهم، إذا تباعدوا ) (33).

وعن أبي الدرداء، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ألا أخبركم على أفضل من درجة الصيام والصدقة ? إصلاح ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة... ) (34).

ومن حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (سِبَاب المسلم فُسُوق، وقتاله كفر ) (35).

وعن أبي أيوب، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيانِ، فيُعْرض هذا ويُعْرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام )(36).

وعن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (من سَرَّه بُحْبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد )(37).

وتدخل في هذا الإطار، كل الآيات والأحاديث، الآمرة بإفشاء السلام، وإطعام الطعام، وعيادة المريض، والتواسي والتكافل، فإنها كلها تحافظ على الوحدة في الأمة، وإنها لخيوط وإن بدت رفيعة، فإن بساط الوحدة، لا ينسج إلا بها جميعًا.

وقد كان هذا البعد الوحدوي، حاضرًا عند فقهاء الأمة، وعلمائها، وهم ينظِّرون في مجال الفقه الإسلامي، وأصوله، ولعل في فهم الإمام الشافعي، رحمه الله، لدليل الإجماع، والذي أدلى به في كتاب (الرسالة)، مؤشرًا على كون الوحدة، أصلاً ضروريًا، لا يمكن إدراك كُنْه شريعة هذه الأمة، ولا طبيعتها، وبنيتها، إلا بالوقوف عليها، حيث قال رحمه الله:

( إذا كانت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تَعْزُب عن عامتهم، وقد تَعْزُبُ عن بعضهم، ونعلم أن عامتهم لا تجتمع على خلاف، لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا خطأ، إن شاء الله، فإن قال: فهل من شيء يدل على ذلك، وتشد به ? قيل: أخبرنا سفيان، بن عبد الملك، بن عمير، عن عبد الرحمن، بن عبد الله، بن مسعود، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نَضَّرَ الله عبدًا سمع مقالتي، فحفظها ووعاها وأدَّاها، فَرُبَّ حامل فقهٍ غير فقيه، ورُبَّ حامل فقه لمن هو أفقه منه، ثلاث لا يَغِلُّ عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة للمسلمين، ولزوم جماعتهم، فإن دعوتهم، تحيط من ورائهم )(38).

أخبرنا سفيان، عن عبد الله، بن أبي لبيد، عن سليمان، بن يسار، أن عمر بن الخطاب، خطب الناس بالجابية، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام فينا كمقامي فيكم، فقال: (أكرموا أصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكــذب، حتى إن الرجل ليَحْـــلِف ولا يُسْــتَحْلَف، ويشــهد ولا يُسْتَشهَد، فمن سَرَّه بُحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذِّ، وهو من الاثنين أبعد...الحديث )(39)، قال: فما معنى أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بلزوم جماعتهم ? قلت: لا معنى له إلا واحد.. قال: فكيف لا يحتمل إلا واحدًا ? قلت: إذا كانت جماعتهم متفرقة في البلدان، فلا يقدر أحد، أن يلزم أبدان قوم متفرقين، وقد وجدت الأبدان، تكون مجتمعة من المسلمين والكافرين، والأتقياء والفجار، فلم يكن في لزوم الأبدان معنى، لأنه لا يمكن، ولأن اجتماع الأبـــدان، لا يصنـــع شـــيئًا، فلم يكن للزوم جمـــاعتهم معنى، إلا ما كان عليه جماعتهم، من التحلــيل والتحــريم، والطـــاعة فيهــما... وإنما تكون الغفلة في الفُرقة، فأما الجماعة، فلا يمكن فيها كافة غفلة، عن معنى كتاب، ولا سنة، ولا قياس، إن شاء الله)(40).

وبالنظر إلى كل ما مر معنا، لا نتردد، في أن نقرر: أن حفظ الوحدة، هي الضرورية السادسة، التي ينبغي، أن تنضاف إلى الضروريات الخمس المقررة، من لَدُن علماء الأمة، وهي: الحفاظ على، الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال.. فهذه ضروريات خمس، بالإضافة إلى ما مر معنا، من فرش تأصيلي، قد أثبت لنا الدرس التاريخي المُرُّ، أنه من غير الممكن الحفاظ عليها، إن لم نحافظ على الوحدة، بين كل أعضاء الأمة الإسلامية.. ويعجبني بهذا الصدد أن أستشهد بنص للمستشار طارق البشري حفظه الله، قال فيه:

( إن الاستعمار لم يحكمنا إلا بالتجزئة، أدرك ذلك وفعله، ونحن لن نتحرر إلا بالوحدة، أدركنا ذلك، ولم نقدر عليه، فحكومات التحرر الوطني، التي قامت، لم تستطع أن تقطع وثاق التبعية تمامًا، وعلى مستوى العروبة وحدها، صرنا اثنتين وعشرين دولة، أي اثنتين وعشرين قطعة، ناهيك عن بلاد المسلمين.

وخبراء العسكرية يجزمون -فيما أعلم- بأن الإمكانات الكاملة، لأي من أقطارنا، لا تُمَكِّن من بناء نظام دفاعي كامل، لأي قُطْر، وأن الأمن القومي، لكل من أقطارنا، يمتد خارج حدوده الإقليمية الضيقة، ونحن نعلم، أنه لا يقوم مشروع قومي، بدون أمن قومي.

وخبراء الاقتصاد، يستبعدون إمكان حدوث نهضة اقتصادية مســتقلة، في الإطـــار الإقليمي لأي من هذه الأقطــــار، ونحــــن نعلم، أنه لا استقلال في السياسة، بدون استقلال في الاقتصاد، ومهما تكن وطنية الحاكمين، فإن المحددات الاقتصادية، والعسكرية، على إدارتهم السياسية، لا تُمَكِّنهم من إطلاق المشيئة الوطنية، إلى المدى الضروري.

إن التجزئة، سوت بيننا في التبعية، فكما أن الفقير من أقطارنا، يَرْسُِفُ في فَقْرِه، فإن الغَنِيَّ منها يَرْسُِفُ في غِنَاه، وكما أن كثيرَ السكان في أقطارنا، يعاني من كثرة السكان، فإن قليل السكان يعاني من هذه القلة، ومن هو في وضع سكاني متكافئ، ومتوازن، لا نجده في حال أفضل، من ذوي الكثرة، والقلة، وهكذا فإن كل عنصر، من عناصر وجودنا، قد وقع بالطريقة التي تجعله عنصر إضعاف، وليس عامل قوة)(41).

لقد تلبست الفُرقة بالمسلمين، حتى امتدت جذورها، في نفس كل فردٍ من أفراد الأمة، وإن التكافل، والتبني المتبادل، من لدن الناس، لهموم بعضهم بعضًا، أمور، لا يمكن أن تتم، إلا إذا التأم شمل الناس، وتجانفوا عن الفردانية، واستبدلوا بها الوحدة، التي هي العاصم، من كل أنواع الضعف، والانسحاق.

أما بعد:

فهذه جملة أسباب، ارتأيت، أنها كامنة وراء حالة التردي، التي اجتـــاحت الأمــة، وجعلت أهلــها شيعًا، كل حــزب بما لديهم فرحــون، لا يَأْبه بعضهم ببعض، ولا يتبنى بعضهم همومَ، ولا آلامَ، ولا آمالَ، بعضٍ، مما مَكَّنَ منهم أعداءهم، وجعلهم نهبًا، لكل أنواع العلل، والأمراض الحضارية، وقد حرصت ما وسعني الجهد، ألا أذكر علة، ولا مرضًا، إلا وذكرت معه ما إخَاله أَجِنَّةَ حلولٍ، تحتاج إلى دراسات إجرائية، من منطلق التنزيل، وفي أفق التقويم والتعديل.
والله المستعان.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

((سورة القيامه سؤال وجواب

الاسرار فى التكرار لاعظم سورة فى القرأن الكريم (الفاتحه)

الباب الثالث مجالات العبادة في الإسلام