حقيقة التوحيد والشرك( )

الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، وعلى آله وأصحابه، ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل لبيان هذه الحكمة والدعوة إليها، وبيان تفصيلها، وبيان ما يضادها، هكذا جاءت الكتب السماوية، وأرسلت الرسل البشرية من عند الله عز وجل للجن والإنس، وجعل الله سبحانه هذه الدار طريقا للآخرة، ومعبرا لها، فمن عمرها بطاعة الله وتوحيده وإتباع رسله عليهم الصلاة والسلام، انتقل من دار العمل وهي الدنيا، إلى دار الجزاء وهي الآخرة، وصار إلى دار النعيم والحبرة والسرور، دار الكرامة والسعادة، دار لا يفنى نعيمها، ولا يموت أهلها، ولا تبلى ثيابهم، ولا يخلق شبابهم، بل في نعيم دائم، وصحة دائمة، وشباب مستمر، وحياة طيبة سعيدة، ونعيم لا ينفد، ينادي فيهم من عند الله عز وجل: ((يا أهل الجنة إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا وإن لكم أن تصحوا فلا
تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا))\
تسقموا أبدا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا)) هذه حالهم ولهم فيها ما يشتهون، ولهم فيها ما يدعون. {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}([1]) ولهم فيها لقاء مع الله عز وجل كما يشاء، ورؤية وجهه الكريم جل وعلا.
أما من خالف الرسل في هذه الدار، وتابع الهوى والشيطان، فإنه ينتقل من هذه الدار إلى دار الجزاء، دار الهوان والخسران، والعذاب والآلام والجحيم، التي أهلها في عذاب وشقاء دائم، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا }([2]) كما قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}([3]) وقال فيها أيضا: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا}([4]) وقال فيها جل وعلا: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ}([5]) والمقصود أن هذه الدار هي دار العمل، وهي دار التقرب إلى الله عز وجل بما يرضيه، وهي دار الجهاد للنفوس، وهي دار المحاسبة، ودار التفقه والتبصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، والعلم والعمل، والعبادة والمجاهدة، قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([6]). فخلق الله الجن والإنس وهما


([1]) سورة فصلت الآية 32.
([2]) سورة فاطر الآية 36.
([3]) سورة طه الآية 74.
([4]) سورة الكهف الآية 29.
([5]) سورة محمد الآية 15.
([6]) سورة الذاريات الآيات 56-58.\
الثقلان: لعبادته عز وجل، لم يخلقهم سبحانه لحاجة به إليهم، فإنه سبحانه هو الغني بذاته عن كل ما سواه. كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}([1]) ولم يخلقهم ليتكثر بهم من قلة، أو يعتز بهم من ذلة، ولكنه خلقهم سبحانه لحكمة عظيمة، وهي أن يعبدوه ويعظموه، ويخشوه ويثنوا عليه سبحانه بما هو أهله، ويعلموا أسماءه وصفاته، ويثنوا عليه بذلك، وليتوجهوا إليه بما يحب من الأعمال والأقوال، ويشكروه على إنعامه، ويصبروا على ما ابتلاهم به، وليجاهدوا في سبيله، وليتفكروا في عظمته، وما يستحق عليهم من العمل، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}([2]) وقال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}([3]) وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}([4]) فأنت يا عبد الله مخلوق في هذه الدار، لا لتبقى فيها، ولا لتخلد فيها، ولكنك خلقت فيها لتنقل منها بعد العمل، وقد تنقل منها قبل العمل، وأنت صغير لم تبلغ، ولم يجب عليك


([1]) سورة فاطر الآيات 15، 16، 17.
([2]) سورة الطلاق الآية 12.
([3]) سورة الأعراف الآية 180.
([4]) سورة آل عمران الآيتان 190، 191.
العمل لحكمة بالغة.
فالمقصود أنها دار ممزوجة بالشر والخير، ممزوجة بالأخلاط من الصلحاء وغيرهم، ممزوجة بالأكدار والأفراح والنافع والضار، وفيها الطيب والخبيث، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والكافر والمؤمن، والعاصي والمستقيم، وفيها أنواع من المخلوقات خلقت لمصلحة الثقلين كما قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} ([1]).
والمقصود من هذه الخليقة كما تقدم: أن يعظم الله، وأن يطاع في هذه الدار، وأن يعظم أمره ونهيه، وأن يعبد وحده سبحانه وتعالى بطاعة أوامره، وترك نواهيه، وقصده سبحانه في طلب الحاجات، وعند الملمات، ورفع الشكاوى إليه، وطلب الغوث منه، والاستعانة به في كل شيء، وفي كل أمر من أمور الدنيا، والآخرة.
فالمقصود من خلقك وإيجادك يا عبد الله، هو توحيده سبحانه، وتعظيم أمره ونهيه، وأن تقصده وحده في حاجاتك، وتستعين به على أمر دينك ودنياك وتتبع ما جاء به رسله، وتنقاد لذلك طائعا مختارا، محبا لما أمر به، كارها لما نهى عنه، ترجو رحمة ربك، وتخشى عقابه سبحانه وتعالى.
والرسل أرسلوا إلى العباد ليعرفوهم هذا الحق، ويعلموهم ما يجب عليهم، وما يحرم عليهم، حتى لا يقولوا ما جاءنا من بشير


([1]) سورة البقرة الآية 29.
فهم قد أرسلوا ليوجهوا الثقلين لما قد أرسلوا به، ويرشدوهم إلى أسباب النجاة ولينذروهم أسباب الهلاك، وليقيموا عليهم الحجة، ويقطعوا المعذرة، والله سبحانه يحب أن يمدح، ولهذا أثنى على نفسه بما هو أهله، وهو غيور على محارمه، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
فعليك أن تحمده سبحانه، وتثني عليه بما هو أهله، فله الحمد في الأولى والآخرة. وعليك أن تثني عليه بأسمائه وصفاته، وأن تشكره على إنعامه، وأن تصبر على ما أصابك، مع أخذك بالأسباب التي شرعها الله وأباحها لك. وعليك أن تحترم محارمه، وأن تبتعد عنها، وأن تقف عند حدوده طاعة له سبحانه ولما جاءت به الرسل.
وعليك أن تتفقه في دينك، وأن تتعلم ما خلقت له وأن تصبر على ذلك حتى تؤدي الواجب على علم وعلى بصيرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقا يلتمس
فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة))


([1]) سورة النحل الآية 36.
([2]) سورة النساء الآية 165.
([3]) سور الأنبياء الآية 25.
وأعظم الأوامر وأهمها توحيده سبحانه، وترك الإشراك به عز وجل، وهذا هو أهم الأمور، وهو أصل دين الإسلام، وهو دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وهو توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون كل من سواه.
هذا هو أصل الدين، وهو دين الرسل جميعا من أولهم نوح، إلى خاتمهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لا يقبل الله من أحد دينا سواه، وهو الإسلام.
وسمي إسلاما لما فيه من الاستسلام لله، والذل له، والعبودية له، والانقياد لطاعته، وهو توحيده والإخلاص له. مستسلما له جل وعلا، وقد أسلمت وجهك لله، وأخلصت عملك لله، ووجهت قلبك إلى الله في سرك وعلانيتك، وفي خوفك وفي رجائك، وفي قولك وفي عملك، وفي كل شأنك.
تعلم أنه سبحانه هو الإله الحق، والمستحق لأن يعبد ويطاع ويعظم لا إله غيره ولا رب سواه.
وإنما تختلف الشرائع كما قال سبحانه: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}([1]) أما دين الله فهو واحد، وهو دين الإسلام، وهو إخلاص العبادة لله وحده، وإفراده بالعبادة: من دعاء وخوف ورجاء وتوكل، ورغبة ورهبة، وصلاة وصوم وغير ذلك، كما قال سبحانه وبحمده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}([2]) أي أمر ألا



([1]) سورة المائدة الآية 48.
([2]) سورة الإسراء الآية 23.
تعبدوا إلا إياه، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([1]) أخبر عباده بهذا ليقولوه وليعترفوا به.
فعلمهم كيف يثنون عليه، فقال عز من قائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}([2]) علمهم هذا الثناء العظيم، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}([3]) وجههم إلى هذا سبحانه وتعالى، فيثنوا عليه بما هو أهله من الحمد والاعتراف بأنه رب العالمين، والمحسن إليهم، ومربيهم بالنعم، وأنه الرحمن وأنه الرحيم، وأنه مالك يوم الدين، وهذا كله حق لربنا عز وجل.
ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}([4]) إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين وحدك، لا رب ولا معين سواك، فجميع ما يقع من العباد هو من الله، وهو الذي سخرهم وهو الذي هيأهم لذلك، وأعانهم على ذلك، وأعطاهم القوة على ذلك، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}([5]) فهو سبحانه المنعم، وهو المستعان والمعبود بالحق جل وعلا.
فأنت يا عبد الله إذا جاءتك نعمة على يد صغير أو كبير أو مملوك أو ملك، أو غيره، فكله من نعم الله جل وعلا، وهو الذي ساق ذلك ويسره سبحانه، خلق من جاء بها وساقها على يديه، وحرك قلبه ليأتيك بها، وأعطاه القوة والقلب والعقل، وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك.



([1]) سورة الفاتحة.
([2]) سورة الفاتحة.
([3]) سورة الفاتحة.
([4]) سورة الفاتحة الآية 5.
([5]) سورة النحل الآية 53.
فكل النعم من الله جل وعلا مهما كانت الوسائل، وهو المعبود بالحق، وهو الخالق للعباد، وهو مربيهم بالنعم، وهو الحاكم بينهم في الدنيا والآخرة، وهو الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقص والعيب، واحد في ربوبيته، واحد في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، جل وعلا، وهو سبحانه له التوحيد من جميع الوجوه، له الوحدانية في خلقه العباد، وتدبيره لهم، ورزقه لهم، وتصريفه لشئونهم، لا يشاركه في ذلك أحد سبحانه وتعالى، يدبر الأمر جل وعلا، كما قال جل وعلا: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شََيْءٍ وَكِيلٌ}([1]) وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}([2]) وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}([3]) الآية، فهو المستحق للعبادة لكمال إنعامه، وكمال إحسانه، ولكونه الخلاق والرزاق ولكونه مصرف الأمور ومدبرها، ولكونه الكامل في ذاته وصفاته وأسمائه. فلهذا استحق العبادة على جميع العباد واستحق الخضوع عليهم.
والعبادة هي الخضوع والذل، وسمي الدين عبادة لأن العبد يؤديه بخضوع لله، وذل بين يديه، ولهذا قيل للإسلام عبادة.
تقول العرب: طريق معبد، يعني مذلل، قد وطأته الأقدام، حتى صار لها أثر بيّن يعرف، ويقال: بعير معبد أي قد شد ورحل


([1]) سورة الزمر الآية 62.
([2]) سورة الذاريات الآيات 58.
([3]) سورة يونس الآيتان 3، 4.






تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

((سورة القيامه سؤال وجواب

الاسرار فى التكرار لاعظم سورة فى القرأن الكريم (الفاتحه)

الباب الثالث مجالات العبادة في الإسلام