تفسير ابن عثيمين الباعث القراءنى(١٤٢١ هـ)
✕
﴿وَمِنۡ حَیۡثُ خَرَجۡتَ فَوَلِّ وَجۡهَكَ شَطۡرَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۚ وَحَیۡثُ مَا كُنتُمۡ فَوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ شَطۡرَهُۥ لِئَلَّا یَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَیۡكُمۡ حُجَّةٌ إِلَّا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ مِنۡهُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِی وَلِأُتِمَّ نِعۡمَتِی عَلَیۡكُمۡ وَلَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ ١٥٠ كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولࣰا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ ١٥١ فَٱذۡكُرُونِیۤ أَذۡكُرۡكُمۡ وَٱشۡكُرُوا۟ لِی وَلَا تَكۡفُرُونِ ١٥٢ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱسۡتَعِینُوا۟ بِٱلصَّبۡرِ وَٱلصَّلَوٰةِۚ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِینَ ١٥٣﴾ [البقرة ١٥٠-١٥٣]
ثم قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة ١٥٠]. هذه الجملة تقدم الكلامُ عليها، وكُررت للتوكيد وتوطئةً لما بعدها؛ لأن الفائدة هنا التوكيد والتوطئة لما بعدها، وهو قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ﴾، وقلنا قبل قليل: إن التكرار في مثل هذه الأمور الهامة يراد منه ثلاثة أمور: الإثبات، والتثبيت، والمدافعة؛ ولهذا قال هنا: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾.
* طالب: من قال يا شيخ: تنزل على الأحوال؟
* الشيخ: لا ما هو بظاهر؛ لأنها عامة، كل واحدة منها عامة، ولذلك لو جاءت واحدة منها بدون الأُخريين لكان الحكم واحدا. وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾؛ اللام هنا للتعليل، اقترنت بها (أنْ) المصدرية، و(لا) النافية و﴿يَكُونَ﴾: فعل مضارع منصوب بـ(أن) المصدرية، ولا يضر الحيلولةُ بين الناصب والمنصوب بـ(لا) النافية. وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾؛ ﴿حُجَّةٌ﴾ وأيش إعرابه؟ اسم (يكون) إن كانت ناقصة، أو فاعلٌ إن كانت تامة. وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ﴾؛ ﴿لِلنَّاسِ﴾ مَن المراد بالناس؟ الآية مجملة فتشمل كلَّ من احتج على المسلمين بتحولهم من بيت المقدس إلى الكعبة، وقد احتج على المسلمين في هذه المسألة اليهود والمشركون، أما اليهود فقالوا: إن الرجل ترك الملة إلى ملة آبائه فهو رجل يتعبد بهواه وليس على هدى. هذه حجة اليهود، والعياذ بالله! بالأمس الأدنى كان يتَّجه إلى بيت المقدس، والآن أخذته العصبية فاتجه إلى الكعبة، وهذا لا شك أنه ظلم، ظلم من اليهود ولّا هم يعرفون في كتبهم كما ذكر بعض أهل العلم أن محمدا ﷺ سيتجه إلى الكعبة فيكون من صفاته؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن الحجة أيضًا لليهود، الحجة لليهود يعني ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾، إن هذا التعليل تعليلٌ للبقاء لا للانتقال؛ يعني لئلا يكون للناس عليكم حجة لو بقيتم على بيت المقدس، فما الحجة إذن؟ الحجة أن يقول اليهود: إن محمدا يتجه إلى الكعبة، وعلى هذا فتكون حجة اليهود من وجهين، من الوجهين السلبي والإيجابي، يعني أنكم إن بقيتم احتج عليكم اليهود بأن هذا ليس محمدا الذي أخبرَتْ به التوراة؛ لأن محمدا الذي أخبرت به التوراة يتجه إلى الكعبة. حجة أخرى أنهم يقولون: لو كان محمد رسولا ما صار بالأمس يتجه إلى بيت المقدس والآن يتجه إلى الكعبة، ولكنه رجلٌ يتبع هواه ويداهن، ففي الأول داهننا ثم بعد ذلك أخذته العصبية فاتجه إلى قبلة آبائه وأجداده، فصار حجةُ اليهود من وجهين، سواءٌ إن بقي فحجتُهم أنه لما لم يتجهوا إلى القبلة ما صار الرسولَ المنتظرَ، وإن تحول حجتهم أنه يتعبد بهواه، ما هو على هدى من الله -والعياذ بالله- إذن يكون التعليل هنا تعليلًا للتحول وللبقاء، ذكر بعض العلماء أن الناس يدخل فيها المشركون أيضًا، يدخل فيها المشركون، يحتجون على الرسول عليه الصلاة والسلام يقولون: هذا الرجل خالفنا في عقيدتنا، وخالفنا في قبلتنا حين هاجر إلى المدينة، ثم رجع إلى قبلتنا فسيرجع إلى ديننا فيحتجون بهذا، أنتم تعرفون أهل الباطل يموّهون، يعني يقلبون -والعياذ بالله- ﴿زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام ١١٢] يقلبون الحق باطلا؛ لأنهم يريدون غرضا والله سبحانه وتعالى يبتلي العباد بمثل هؤلاء الذين يقلبون الحقائق ويجعلون من الحق باطلا، وإلا فكيف يمكن أن يكون حجة لهؤلاء وهؤلاء؟ ما في حجة، بل إن تحوله مع تخوفه العظيم عليه الصلاة والسلام مما وقع من الاعتراضات والمضايقات، وتعرفون المسألة احنا ما ندرك حقيقتها، حقيقة اللي حصل، كونه يتحول مع توقعه لهذه المعارضات؛ لأن الله قال له سبحانه وتعالى: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ﴾ إذن المسألة سيكون فيها أخذٌ وردٌّ ومضايقات، تحوله مع هذه التوقعات وأيش يدل عليه؟ يدل على صدقه، وفي الحقيقة ليس دليلا على ما يزعم هؤلاء، بل هو أكبر دليل على صدقه وأنه يتعبد بوحي من الله عز وجل، قيل له: اتجِه إلى هذا فاتجَهَ، وقيل: اتجِه إلى هذا فاتجَهَ، ما يريد هو أن يتبع هواه، بل يتبع ما جاءه من الوحي.
وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾؛ ﴿عَلَيْكُمْ﴾ الضمير يعود على من؟ على المؤمنين عموما، للرسول عليه الصلاة والسلام ولأتباعه؛ لأن كل حجة يحتج بها على الرسول للتلبيس وإبطال الدعوة فهي في الحقيقة حجة على جميع أتباعه؛ لأن أتباعه إنما تَبِعوه لأنه على الحق، فإذا جاء من يلبِّس صار ذلك تلبيسا لطريقهم ومنهاجهم، فهو حجة على الجميع، وقوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾؛ ﴿حُجَّةٌ﴾ هل هذه حجة حقيقية أو حجة باطلة؟ حجة باطلة، ولا يلزم من الاحتجاج قبوله، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ [الشورى ١٦] باطلة، فالاحتجاجات ليست كلُّها مقبولة، إن كانت بحق فهي مقبولة وحجة، وإلا فهي باطلة ولو أقيمت أو ولو صيغت صيغة الدليل والبرهان، حتى لو صاغها من يحتج بها صيغة الدليل والبرهان فإنها تعتبر باطلة، أرأيتم احتجاج الفلاسفة؟ على طريقتهم، احتجاج المعتزلة على طريقتهم، احتجاج الجهمية على طريقتهم، احتجاج القدرية على طريقتهم وهكذا، هذه الحجج هم يأتون بحجج عظيمة لكنها كما قيل:
حُجَجٌ تَهَافَتُ كَالزُّجَاجِ تَخَالُهَا ∗∗∗ حَقًّا وَكُلٌّ كَاسِرٌ مَكْسُورُ
نعم، ما تقوم لهم حجة، حججهم كلها تعتبر شُبَهًا باطلة، هؤلاء الذين يريدون أن يحتجوا على المسلمين بتحولهم من بيت المقدس إلى مكة أو إلى المسجد الحرام، هل هذه الحجة صحيحة؟ كلا، بل هي من أبطل الحجج، ولكن مع ذلك لا مانع أن الإنسان يتسلح، ولو للحجج الباطلة؛ ولهذا قال الله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ والمراد بالذين ظلموا المعاندون المكابرون الذين لا يَرْعَوُونَ للحق مهما تبيّن، وقوله: ﴿إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ اختُلف في إلا هنا، هل هي متصلة أو منقطعة؟ بمعنى: هل الاستثناء متصل أو منقطع؟ فمنهم من قال: إنه متصل، ومنهم من قال: إنه منقطع، فالذين قالوا: إنه منقطع قالوا: إلا بمعنى لكن؛ يعني: لئلا يكون للناس عليكم حجة لكن الذين ظلموا منهم لن تنجوا من محاجتهم ومخاصمتهم، خذوا بالكم. ومن قال: إنه متصل قال: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا فيكون مستثنى من الناس؛ لأن الناس منهم ظالم ومنهم من ليس بظالم، والأقرب عندي -والله أعلم- أن الاستثناء منقطع؛ لأن قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ﴾ هذا عام شامل، لكن من ظلم منهم من اليهود أو المشركين فإنه لن يرعَوِيَ لهذه الحكمة التي أبانها الله عز وجل؛ لئلا تنتفي حجة هؤلاء الظالمين.
* طالب: شيخ، ما يرد بأنه من قال: الاستثناء متصل ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ﴾، هم احتجوا، لو قلنا: اتصال الاستثناء ما لهم حجة ما ذكر لهم حجة؟
* الشيخ: اللي يقرب لي من هذا السياق أنه منقطع.
* الطالب: شيخ ما معناه على أن يكون متصل؟
* الشيخ: يقول: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ إن الله تعالى بيَّن للرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه أنه ما أحد يحتج عليهم إلا الظالمين، ولكن في الحقيقة هذا ضعيف المعنى، ضعيف جدا، فالذي يظهر لي أن الاستثناء منقطع. قال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ الله أكبر، يعني مهما قالوا من الكلام ومهما قالوا من زخارف القول ومهما ضايقوا من المضايقات فلا تخشوهم، لا تخشوهم، فالخشية والخوف متقاربان إلا أن أهل العلم يقولون: إن الفرق أن الخشية لا تكون إلا مع العلم؛ لقوله: ﴿إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾ [فاطر ٢٨] بخلاف الخوف، فقد يخاف الإنسان من الْمَخُوف وهو لا يعلم عن حاله، أما الخشية فلا يكون إلا مع العلم. والفرق الثاني: يقولون: إن الخشية تكون لعِظَم المخشيِّ، والخوف لضعف الخائف وإن كان الْمَخُوفُ ليس بعظيم، فتقول مثلا: الصبي يخاف من المراهق، نعم، لأيش؟ لضعفه، هكذا فُرِّق، وعلى كل حال إن صح هذا الفرق فهو ظاهر، لكن الفرق الأول واضح وهو أن الخشية إنما تكون مع العلم.
* طالب: (...) فرق إن الخشية أشد من الخوف من حيث وضعُها؟
* الشيخ: لا، ما هو بظاهر ولّا بعضهم قال: إنها أشد؛ لأن هذه المادة، الخاء والشين، تدل على القوة ومنه الشيخ الكبير، لكن فيها نظر.
وقال: ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ﴾ تخشوا مَن؟ الذين ظلموا، مهما كان ظلمهم لا تخشاهم ما دمتَ على حق لا تخاف من أحد، ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ أتى بعد النهي بالأمر؛ لأنه كما يقال: التخلية قبل التحلية، أَزِلِ الموانعَ أولًا ثم أثبت، فأولًا فرِّغ قلبك من كل خشية لغير الله، ثم مكن لخشية الله من قلبك، فأنت أزل الشوائب حتى يكون المحل قابلا، فإذا كان المحل قابلا، حينئذ يكون الوارد عليه واردا على شيء لا ممانعة فيه ﴿فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي﴾ والأمر هنا، كما سيأتينا إن شاء الله في الفوائد، الأمر ﴿وَاخْشَوْنِي﴾ لأي شيء؟ للوجوب، الوجوب بلا شك، الواجب على المرء أن يخشى الله وحده، ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾؛ إتمامُ الشيء بلوغ غايته، وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ﴾ معطوف على قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾، لئلا يكون للناس ولأُتم، ﴿أُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ والإتمام بلوغ الشيء غايته، والغالب أنه يكون في الكمال، وقوله: ﴿نِعْمَتِي﴾ النعمة ما هي؟ هي ما يَنْعَمُ به الإنسان، ويقال: نِعمة، ويقال: نَعمة، لكن الغالب في النعمة أن تكون في الخير، والنَّعمة التنعُّم من غير شكر كما قال تعالى: ﴿وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ﴾ [الدخان ٢٧]، وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ هذه نزلت متى؟ متى نزلت ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾؟
* طالب: بعد سورة البقرة، في أول الهجرة.
* الشيخ: في أول الهجرة عند تحويل القبلة؛ يعني في السنة الثانية، ولا يعارضها قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] وقد نزلت في يوم عرفة في حجة الوداع، نعم لا تعارضها؛ لأن المراد في آية المائدة ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة ٣] الإتمامُ العام في كل الشريعة، وأما هنا ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ في هذه الشريعة الخاصة وهي استقبال الكعبة بدلا عن بيت المقدس؛ لأنه سبق أن «الرسول عليه الصلاة والسلام كان يُقلِّب وجهَه في السماء ينتظرُ متى يُؤمر بالتوجّه إلى الكعبة »(١)، فهذه لا شك أنها من نعمة الله عز وجل أن أنعم على المسلمين بأن يتجهوا إلى هذا البيت الذي هو أول بيت وضع للناس، والذي كما قال بعض أهل العلم: هو قبلة جميع الأنبياء كما ذكره شيخ الإسلام رحمه الله، أن الكعبة قبلة جميع الأنبياء، وأن اتجاه اليهود إلى بيت المقدس والنصارى إلى المشرق هذا مما غيروه في دينهم.
وقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ أضاف الله تعالى النعمة إليه؛ لأنه صاحبها هو الذي يُسديها ويوليها على عباده، ولولا هذه النعمة العظيمة ما بقي الناس طرفة عين، وانظر إلى قوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة ٦، ٧] في النعمة قال: ﴿أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، وفي الغضب ما قال: صراط الذين غضبتَ عليهم بل قال: ﴿الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ نعم، وهي نظير قوله: ﴿وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا﴾ [الجن ١٠]، ثم إن المغضوب عليهم.. الغضب على هؤلاء ليس من الله فقط، بل من الله سبحانه وتعالى ومن أوليائه من الرسل وأتباعهم. ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ (لعل) هنا أيش معناها؟
* طالب: للتعليل..
* الشيخ: للتعليل؛ يعني ولأجل أن تهتدوا، والهداية كما مر علينا نوعان: هداية علمية، وهداية عملية، ويقال: هداية الإرشاد، وهداية التوفيق، فالهداية العلمية معناها: أن الله يفتح على الإنسان من العلم ما يحتاج إليه في أمور دينه ودنياه، والعملية: أن يوفق للعمل بهذا العلم. الأولى وسيلة والثانية غاية؛ ولهذا لا خير في علم بدون عمل، بل إن العلم بدون عمل يكون وبالا على من رُزقه.
وقوله: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ هذه هي العلة الثالثة من هذه العلل، العلة الأولى ما هي؟ ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾، والعلة الثانية: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾، والثالثة: ﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾؛ وهنا الهداية شاملة للهداية العلمية والعملية يعني: علما وعملا، ووجه كونها شاملة: أنهم ما علموا أن مرضاتَ الله سبحانه وتعالى بالتوجه إلى الكعبة إلا بما علَّمهم الله، ثم إن الله وفَّقهم للاهتداء إليها، هل مانعوا؟ أبدًا، بل إن أهل قباء أتاهم الخبر وهم يصلُّون صلاة الفجر، وكان الإمام إلى الشمال والمأمومون إلى الجنوب فأخبرهم بأن القبلة حُوِّلت إلى الكعبة، فماذا صنعوا؟ توجَّهوا في صلاتهم إلى الكعبة(٢)، فصار الإمام نحو الجنوب والمأمومون نحو الشمال وكلهم وجوههم إلى الكعبة، هذه هداية عملية عظيمة؛ لأن انتقال الإنسان إلى ما أمر الله به بهذه السهولة مع توقع المعارضات والمضايقات، وأيش يدل عليه؟ على قوة إيمانه، وثقته بربه سبحانه وتعالى، وهكذا يجب على كل مؤمن إذا جاء أمرُ الله أن يمتثل الأمرَ، والله سبحانه وتعالى سيجعل له من أمره يسرا؛ لأن تقوى الله فيها تيسير الأمور، لا يقول: والله هذا أخشى من المضايقات، أخشى أن الناس يعيرونني، أخشى أن الناس يستهزئون بي، هذا لا يضر، فـ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج ٣٨].
﴿وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٠) كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا﴾ [البقرة ١٥٠، ١٥١] هذه أيضًا مِنَّةٌ رابعة وُجهت إلى المؤمنين ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾؛ يعني: هذا داخل في قوله: ﴿لِئَلَّا يَكُونَ﴾، ﴿وَلِأُتِمَّ﴾، ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾، كما أنكم أيضًا، كما أنكم قد أُرسل فيكم هذا الرسول النبي عليه الصلاة والسلام.. إلى آخره؛ يعني: معناه أن نعمة الله علينا التوجُّه إلى الكعبة بدلا عن بيت المقدس أنها عظيمة، كما أن نعمته علينا بالرسول ﷺ عظيمة، ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ ﴿رَسُولًا مِنْكُمْ﴾ والإرسال بمعنى البعث، والبعث بمعنى الإرسال أيضًا، يعني أنه مرسل من الله؛ وذلك لأن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق للعبادة وكيف يُعبد؟
* طالب: يعبد بما شرع.
* الشيخ: نعم بما شرع، وكيف نعرف أن هذا مما يرضاه الله أن نتعبده به وهذا مما لا يرضاه؟ لا يمكن ذلك إلا بواسطة الرسل، لو أن الإنسان وُكِلَ إلى عقله بالعبادة ما عرَف يعبد الله، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: ولو وكل إلي عقله في العبادة ما اجتمع الناس على عبادة الله، لكان كل واحد يقول: هذا هو الصواب ويمشي، ولو أن الإنسان وكل إلى عقله بالعبادة ما كانت أمتنا أمةً واحدة، فعلى كل حال لا يمكن لنا بمجرد عقولنا أن ندرك كيف نعبد الله؟ ومثلٌ بسيط: لو قيل لك: تطهر للصلاة ولم يبيَّن لك هذا الطهور، كيف تتطهر؟ يجي واحد يمكن يقول لك: التطهر لازم أني أتطهر من الإبهام إلى الإبهام، نعم، ويجي واحد يقول: ما أطهر إلا الكف والجبهة والأنف والركبتين وأطراف القدمين؛ لأنها اللي بيشمل السجود، ويجي آخر ويكون عنده شكل ثان، فلولا أن الله أبان لنا كيف نعبده، ما عرفنا كيف نعبده؟ وهذه من نعمة الله بإرسال هذا الرسول محمد ﷺ الذي بين لنا كل شيء؛ ولهذا قال أبو ذر: «لقد تُوفّي رسول الله ﷺ وما طائرٌ يُقلّب جناحَيْهِ في السماء إلا ذَكَر لنا منه علمًا، حتى الطيور في السماء علمنا عنها الرسول عليه الصلاة والسلام »(٣). وهذا عام في كل شيء، كل ما نحتاج إليه في أمور ديننا ودنيانا فقد علَّمنا إياه هذا الرسول؛ ولهذا قال: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ ما سبق، هل المراد منكم نسبا أو منكم جنسا؟ وقد سبق لنا أنه إذا قال: ﴿مِنْ أَنْفُسِكُمْ﴾ [التوبة ١٢٨] فالمراد الجنس، وإذا قيل: منكم أو منهم فالمراد النسب، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة ٢] وقد قال الله: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران ١٦٤] والمؤمنون فيهم العرب وغير العرب.
﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ ما معنى يتلو؟ يقرأ، يقرأ عليكم آياتنا، فيأتي بها كما سمع، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة ١٧- ١٩] ثلاث مراحل: جمع وقرآن بواسطة جبريل، ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ بيانه للناس كلهم بيانه معنًى ولّا لفظا؟ لفظا ومعنى؛ ولهذا القرآنُ -والحمد لله- مبيَّنٌ لفظُه ومعناه، ليس فيه شيء يشتبه على الناس إلا اشتباها نسبيًّا بحيث يشتبه على شخص دون آخر، أو في حال دون أخرى (...).
أنه تقرير له (...)، ما تقولون؟ سؤال: هل قوله ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ هل هو تقرير لما سبق أو هو زائد على ما سبق؟
* طالب: زائد.
* الشيخ: إذا كان زائدًا على ما سبق، فأين ما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام خارجًا عن الكتاب والسنة؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لكن رجحنا أنها عامة، فالظاهر لي أن القول بأنه من باب تقدير ما سبق ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ أنه أولى؛ لأنه لو قال قائل: يعلِّمنا ما لم نكن نعلم من أمور الآخرة؛ قلنا: هو داخل في الكتاب والسنة ما يخرج عنها، مهما قدرت من التقديرات وجدته داخلا في الكتاب والسنة، لكنه ذكر للتقرير وبيان النعمة في أنه يعلمنا ما لم نكن نعلم، إذن الأصل في بني آدم الجهل أو العلم؟ الأصل الجهل؛ لأن العلم وارد، فكل ما عَلِمنا من العلم فإنه في الحقيقة وارد على الجهل، وهو مما يدل على نقص الإنسان حيث كان الأصل فيه الجهل، ولكنه يتعلم بتعليم الله.
وقوله: ﴿يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ هذا ليس على عمومه فإنه يخص منه ما لا يمكن الاطلاع عليه من علم الغيب، فعلم الساعة مثلا، عُلِّمْنَا إياه؟ ما علمنا إياه مع أننا لا نعلمه؛ لأن هناك أشياء من أمور الغيب ما تعلم، حتى أقرب الأمور إلينا ما نعلمها، وهي الروح ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء ٨٥] فعلى هذا يكون ﴿مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: ما لم تكونوا تعلمون لكن مما تحتاجون إلي العلم به، أما ما لا يمكن العلم به؛ فإن هذا ما عَلِمناه ولا عَلَّمناه مثل أمور الغيب التي لا يعلمها إلا الله؛ كعلم الساعة ونزول المطر وعلم المستقبل، إلا ما أَطْلع الله عليه رسوله، وكذلك العلم بكيفية أسماء الله وصفاته، فإن هذا لا يمكن الإحاطة به، فكل ما يتعلق بصفات الله فعلمُه لا يمكن الإحاطة بكيفيته؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ﴾ [الأنعام ١٠٣] مع رؤيتها له، مع رؤيتها لله لكنها لا تدركه، وهذا في الآخرة، ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام ١٠٣] أخبرنا الله عن أفعال كثيرة من أفعاله؛ كاستوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، ومجيئه للفصل بين عباده، وغير ذلك من أفعاله، وهل نحن نعلم الكيفية؟ ما نعلمها، أخبرنا الله تعالى عن نفسه أنه يعجب؛ لقوله: ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾ [الصافات: ١٢] بقراءة بضم التاء وهي قراءة سبعية ﴿بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ﴾ ، وكذلك أيضًا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن الله أنه يضحك: «يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ»(٤) فهل يمكن لنا أن نتصور أو أن نبين هذه الكيفية؟ لا، لا يمكن أن نتصورها ولا أن نبين هذه الكيفية؛ لأن هذا مجهول، هذا مجهول لنا، ولا يمكننا الإحاطة به.
ثم قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾
أولًا: إعراب الآية:
﴿اذْكُرُونِي﴾: فعل أمر؟ فيها نون الوقاية وياء المفعول به وواو الفاعل، كم من كلمة صارت؟ أربع كلمات: فعل أمر، والواو فاعل، نون وقاية، ياء مفعول، هذا فعل أمر جوابُه: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾، لماذا سُكِّنَ الفعل؟ لأنه كان جوابا للأمر، وهو قوله: ﴿اذْكُرُونِي﴾، فقوله تعالى: ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ يعني: عمل وجزاء، العمل: ذكر الله عز وجل، والجزاء: ذكر الله لعبده، أيُّهما أعظم؟ معلوم الأخير، يعني كون الله يذكرُك أعظمُ من كونك تذكره؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي﴾ [آل عمران ٣١] تحبوا الله
* الطلبة: لا.
* الشيخ: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾، الجواب: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾؛ لأن هذا هو الغاية، الغاية والقصد أن الله يحبك، ما هو أن تحب الله؛ ولهذا لم يأتِ الجواب على الوجه المتوقع، الوجه المتوقع: إن كنتم تحبون الله فاتبعوني تحبوا الله، لكن الجواب: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾؛ لأن الشأن كلَّ الشأن أن يحبك الله، هنا ﴿اذْكُرُونِي﴾ هذا ذكر الإنسان لربه، لكن الشأن ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾، ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، وقوله: ﴿اذْكُرُونِي﴾ فعل أمر، وبماذا يكون ذكرُ الله؟ يكون بالقلب وباللسان وبالجوارح، الأصل: ذكر القلب «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ»(٥) وذكرُ الله باللسان أو بالجوارح بدون القلب هو قصور، ما هو ذكر، الحقيقة أن الذكر ذكر الله تعالى بالقلب، وكيف أذكره بالقلب؟ أذكره بالقلب أن الإنسان بقلبه ينيب إلى الله، ويتوكل عليه ويرجوه ويخافه ويستحضر حُبَّه وعظمته وغير ذلك، وهذا أمر لازم للإنسان، كذلك أيضًا الإنسان يشاهد في الكون أشياء كلها من آيات الله، يشاهد الشمس بعظمتها وانتظامها وطلوعها وغروبها، كذلك القمر، وكذلك النجوم، وكذلك الليل والنهار والأحوال ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ [آل عمران ١٤٠] إلى غير ذلك، نستدل بهذه الأشياء على من؟ على من دبَّر هذه الأشياء وخلق هذه الأشياء، وكل شيء منها له دلالة خاصة، منها ما يدل على العظمة، ومنها ما يدل على قوة السلطان، ومنها ما يدل على الحكمة، وكلُّها حكمة لكن بعضها أخص من بعض في الدلالة، هذا ذكر القلب بالمحبة والتعظيم والإنابة والخوف والرجاء والتفكر.. إلى غير ذلك.
ذكرُ الله باللسان يشمل الذكر المعروف مثل: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله والله أكبر، وما أشبه ذلك، ويشمل قراءة القرآن، ويشمل الدعاء، ويشمل كلَّ قول يقرِّب إلى الله عز وجل؛ لأن كل قول يقرب إلى الله فهو من الطاعة، والطاعة مأمور بها، وفاعل الطاعة يستشعر أنه يفعلها لأي شيء؟ طاعةً لله وتقرُّبًا إليه، إذن فيكون هذا ذكر، يكون هذا ذكر الله عز وجل، وإذا جعلنا الذكر بهذا المعنى العام أمكن للإنسان أن يجعل جميع أقواله ذكرا لله إذا وفق؛ ولهذا ممكن أن تكون عادة الذاكرين عبادة، وأن تكون عبادة الغافلين عادة، كل هذا من أجل النية، يكون الذكر بالجوارح، كيف الذكر بالجوارح؟ القيام بالصلاة والركوع والسجود، والجهاد، والزكاة، كلُّها ذكر لله؛ لأنك عندما تفعلها تكون طائعا لله، وحينئذ تكون ذاكرا لله في هذا الفعل؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾ [العنكبوت ٤٥] قال بعض العلماء: ولما تضمنته من ذكر الله أكبر، وهذا أحد القولين في هذه الآية.
* طالب: (...).
* الشيخ: هذه المسألة يجب أن نعرف المعاني إذا قرنت مع غيرها فُسِّرت بخاصة، وعند الإطلاق تشمل، مثلا: عندنا الفقير والمسكين إذا قُرنا فُسر كلُّ واحد بما يختص به، البر والتقوى إذا قرنا جميعا فسر كل واحد بما يختص بها، وإذا أُفرد أحدهما شمل الآخر، فالذكر عند الإطلاق، أما إذا قال مثلا: هذا الرجل قرأ القرآن وذكر الله، يكون هنا قراءة القرآن خاصة والذكر خاص.
وقوله تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾، ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ هل هي من صفات الله؟ وهل هي من الذاتية؟ وهل هي من الإيجابية أو السلبية؟ الجواب عن الأول من صفات الله ولّا لا؟ من صفات الله، وعن الثاني هل هي ذاتية أو فعلية؟ فعلية، وعن الثالث إيجابية أو سلبية؟ إيجابية كذا.
وقوله: ﴿اذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ هنا مطلق، ولكن يتبين من صيغة الأمر والجزاء أن يكون الجزاء من جنس العمل؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح: «إِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُ»(٦). ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ فيها قراءة ﴿فَاذْكُرُونِيَ أَذْكُرْكُمْ﴾ فاذكروني، بفتح الياء؛ يعني ياء المتكلم، يجوز إسكانها وفتحها وحذفُها تخفيفًا، لكنها في القرآن تتوقف على السماع، إنما من حيث اللغة العربية يجوز فيها الفتح والإسكان وأيش بعد؟ والحذف، لكن بالنسبة للقرآن تتوقف على السماع، وهنا فيها قراءة ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾.
وقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾؛ ﴿اشْكُرُوا﴾ فعل أمر من شَكَرَ، وقد اختلف أهل العلم بالعربية هل ﴿اشْكُرُوا لِي﴾ هي اشكروني أو غيرها؟ فقال بعضهم: إنها هي هي، وأنَّ شَكَرَ تتعدى بنفسها وتتعدى باللام، فيقال: شكرَهُ، ويقال: شكرَ له. وقال بعضهم: إنها ليست بمعناها وأن شكر تتعدى بنفسها دائما، وأن المفعول هنا في نحو ﴿اشْكُرُوا لِي﴾ محذوف؛ يعني: اشكروا لي ما أنعمت عليكم، ما أنعمت عليكم، أو نعمتي، أو ما أشبه ذلك، والخلاف في هذا لا يترتب عليه كبيرُ فائدة؛ لأن الجميع متفقون على أن المراد بهذا الأمر القيامُ بشكر الله عز وجل، وذلك بامتثال أمره واجتناب نهيِه، والشكر يكون بالقلب ويكون باللسان ويكون بالجوارح، ولا يكون إلا في مقابلة نعمة، خدوا بالكم، فسببه أخص من سبب الحمد، ومتعلَّقُه أعم من متعلَّقِ الحمد، أرجو أن تنتبهوا، الحمد يكون باللسان لكن سببه كمال المحمود وإنعام المحمود، فإذا كان سببه إنعام المحمود كان من الشكر، أعني الحمد، أما الشكر؛ فإن سببه واحد، ما هو؟
* طالب: النعمة.
* الشيخ: النعمة، نعمة المشكور، أما متعلَّقُه فثلاثة: يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح، خذوا بالكم من الفرق بين الحمد والشكر، أكثر الناس ما يعرفون الفرق بينهما، فيختلفان إذن من حيث السبب، ويختلفان من حيث المتعلَّق، سبب الحمد أيش قلنا؟ كمال المحمود وإحسان المحمود، فالله جل وعلا يُحمد على كماله وعلى إنعامه، وسبب الشكر؟ النعمة، نعمة المشكور، أما المتعلق؛ فالحمد يكون باللسان فقط، والشكر يكون باللسان والقلب والجوارح، وعليه قول الشاعر:
أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلَاثَةً ∗∗∗ يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَالْمُحَجَّبَا
فـ(يدي): هذا الشكر للجوارح، (لساني): باللسان يعني القول، و(الضمير المحجَّبَ): القلب.
ما هو الشكر بالقلب؟ الشكر بالقلب أن يُقِرَّ الإنسان بقلبه أن هذه النعمة من الله عز وجل، فيحب الله سبحانه وتعالى لهذا الإنعام؛ ولهذا ورد في الحديث: «أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ بِهِ مِنَ النِّعَمِ»(٧)، فإن الإنسان إذا شعر بأن هذه النعمة من الله، أحب الله؛ لأن النفوس مجبولة على محبة مَن يحسن إليها، هذا تعلُّق الشكر بالقلب، تعلقه باللسان التحدث بنعمة الله لا افتخارا بل شكرا، قال الله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ [الضحى ١١]، وقال رسول الله ﷺ: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ»(٨). أما الشكر بالجوارح؛ فأن يقوم الإنسان بطاعة الله، ويصرف هذه النعمة لما جُعلت له، ويصرف هذه النعمة لما جعلت له، فإن هذا من شكر النعمة.
وقوله تعالى: ﴿اشْكُرُوا لِي﴾ على القول بأن شَكَرَ تتعدى بنفسها أو اللام، لا إشكال في الموضوع؛ لأن المعنى: اشكروا لي واشكروني واحد، أما على القول الثاني: أن شَكَرَ تتعدى بنفسها فاللام هنا للإخلاص؛ يعني اشكروا لي لا لغيري، فيكون هنا بيان المشكور له وهو الله عز وجل؛ لأنه هو أهل الشكر.
وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ أصله: لو قال قائل: كيف ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ (لا) ناهية وهنا جاءت النون مع أنها من الأفعال الخمسة؟ فالجواب: أن النون هنا للوقاية وليست نون الإعراب، ومثله قوله تعالى: ﴿فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ﴾ فَلَا يَسْتَعْجِلُونَ ولّا ﴿يَسْتَعْجِلُونِ﴾؟ يستعجلونِ، ﴿فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ﴾ [الذاريات ٥٩، ٦٠] فالنون هنا للوقاية، وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾؛ أي: لا تجحدوني أو تجحدوا نعمتي، بل قوموا بشكرها وإعلانها وإظهارها؛ ولهذا إذا أنعم الله على عبده نعمةً فإنه يحب منه أن يُرى أثرُ نعمته عليه، إذا أنعم الله عليه بعلم فإن الله يحب من هذا العالم أن يظهر أثر هذه النعمة عليه؛ أولًا: على سلوكه هو بنفسه بحيث يكون معروفا بعلمه يقوم ويعمل بما علم. الثاني: من ظهور العلم بالتعليم، يعلِّم الناس ما استطاع، وليس بلازم أن يعلِّمَه في حلقات، قد يعلِّمُ شخصا يصلي إلى جنبه فيخل بأمر من الأمور في الصلاة فيُعَلِّمُهُ، هذا من طرق التعليم. الثالث: من آثار نعمة العلم: أن يدعو الإنسان إلى الله على بصيرة، أن يدعو إلى الله على بصيرة بحيث إنه في كل مجال يمكنه أن يتكلم بالدعوة إلى الله يتكلم بقدر ما يستطيع، حتى في المجالس الخاصة فيما إذا دعي إلى عزيمة مثلًا ورأى من المصلحة أن يتكلم فليتكلم، وكان بعض أهل العلم في مسألة فهو فيما حضر، بعض الناس من أهل العلم يكون معه كتاب إما معه بنفسه أو مع أحد من تلاميذه، فيقرأ الكتاب على الحاضرين ويستفيد ويفيد، وهذا طيب إذا علم من الناس قبول هذا الشيء بأن يكون قد عوَّدهم على هذا وصاروا يترقبونه منه، أما إذا لم يعودهم فإنه قد يثقل عليهم بهذا، ولكن من الممكن أن يفتح المجال بإيراد يورده، سؤالٍ مثلا حتى ينفتح المجال للناس ويسألون وينتفعون؛ لأن بعض طلبة العلم تذهب مجالسهم كمجالس العامة لا ينتفع الناس بها، وهذا لا شك أنه نقص وإن كانوا قد لا يأثمون، لكنه نقص، فالذي ينبغي لطالب العلم حتى وإن لم يُسأل أن يورد هو سؤالًا؛ لأجل أن يفتح الباب للحاضرين فيسألوه، «وقد جاء جبريل إلى رسول الله ﷺ يسأله عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة وأماراتها وقال النبي عليه الصلاة والسلام:«هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ»(٩) مع أنه هو عَلَّمَ جبريل، الذي يجيب مَن؟ الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لماذا جعله معلما؟ لماذا جعله معلما، وهو يسأل؟
* طالب: لأنه صدقه.
* الشيخ: لا.
* طالب: لأنه سأله وبسبب سؤاله..
* الشيخ: صار العلم، نعم؛ لأنه تسبَّبَ لهذا العلم، المهم أننا نقول: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ إنه من كفر النعمة أن لا يظهر أثرُها على من أنعم الله عليه، فإنه ينبغي للإنسان ألَّا يسترها؛ لأن الكفر في الأصل هذه المادة (كاف، فاء، راء)، وأيش أصلها في اللغة؟ الستر، ومنه الكُفُرَّى اللي يسميه العوام: الكافور، حق النخل؛ لأنه يستر الثمرة، فالإنسان الذي لا يُرى عليه أثر النعمة فهو في الحقيقة ما أظهرها بل جحدها.
﴿وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (١٥٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ تقدم لنا ولا بأس من إعادته أن الكلام إذا صُدِّرَ بالنداء فهو دليل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب التفات المخاطب إلى مناديه، واضح ولّا لا؟ وسبق لنا أن الله تعالى إذا صَدَّرَ الحكم أو الخبر بوصف الإيمان؛ كان ذلك دليلا على أن التصديق به إن كان خبرا من مقتضيات الإيمان، وعلى أن التزامه إن كان حكما من مقتضيات الإيمان، إن كان خبرا مثل الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ﴾ [المائدة ٩٤] هذا خبر، والحكم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ فالمهم أنه إذا صُدِّرَ الكلام بوصف الإيمان دلَّ ذلك على أن التزامه إن كان حكما من مقتضيات الإيمان، وتصديقه إن كان خبرا من مقتضيات الإيمان، وأن مخالفته أو تكذيبه نقص في الإيمان، كذلك أيضًا تصدير الشيء بوصف الإيمان هو في الحقيقة من باب الإغراء، من باب إغراء المخاطب بالتزام الحكم أو تصديق الخبر، كأنه يقال لهم: يا أيها الذين آمنوا لإيمانكم، ولكونكم مؤمنين افعلوا كذا وكذا، أو لا تفعلوا كذا وكذا، أو سيكون كذا وكذا فصدِّقوه، مثلما تقول للإنسان: يا رجل، وأيش معنى (يا رجل)؟ يعني أن مقتضى رجولتك أن تتجنب هذا الشيء، أو أن تقوم بهذا الشيء، أو ما أشبه ذلك. يا مؤمن، هذا إغراء يعني: لإيمانك افعل كذا أو اترك كذا.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ استعينوا بها؛ أي: اجعلوها عونًا لكم، ﴿بِالصَّبْرِ﴾؛ أي: اجعلوا الصبر عونا لكم، ﴿وَالصَّلَاةِ﴾ الصبر في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: قُتل فلان صبرا؛ أي: حبسًا.
وفي الاصطلاح: هو حبس النفس، حبس النفس على ما ينبغي أن تكون عليه، أو عمَّا ينبغي ألَّا تكون عليه، فهو ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة؛ الصبر على طاعة الله يحتاج إلى مكابدة من وجهين: من وجه التعب النفسي والتعب البدني، الصبر على الطاعة يكابده الإنسان من وجهين أيش؟
* الطلبة: التعب النفسي والبدني.
* الشيخ: التعب النفسي والبدني، النفسي: أنك تجده يجاهد نفسه على فعل الطاعة، والبدني: يتعب يتوضأ في أيام السَّبَرَات، ويخرج إلى المساجد في الظلمات، ويركب المشقات للوصول إلى بيت الله وهكذا. الصبر عن المعصية، وأيش يتضمن؟ التعب النفسي فقط؛ لأنه كَفٌّ، ما عليك تعب، اترك هذا الشيء فقط، ففيه التعب نفسي، البدن ما تَحَرَّكَ ولا شيء، بس طلب منه أن يكف، إذن فهو تعب نفسي، لاحظوا أنه قد يكابد الإنسان من التعب النفسي على ترك المحرم أكثر مما يكابده على تعب النفس في الشيء المأمور به؛ أي في الطاعة، خدوا بالكم يا جماعة يعني: قد يكون هناك داعٍ قوي لفعل هذه المعصية يكون مكابدة الإنسان التعب النفسي في تركه أمرًا شديدًا وشاقًّا، ويكون فعله للطاعة ولو كانت أفضل أهون عليه من الناحية النفسية. ثم القسم الثالث: الصبر على أقدار الله المؤلمة، فيه معاناة، نفسية ولّا بدنية؟
* طالب: نفسية وبدنية.
* الشيخ: الأقدار المؤلمة؟ الأقدار المؤلمة فيها؟
* الطالب: نفسي وبدني، ممكن صار له مرض، كسر.
* الشيخ: أي ما أخالف لكن هذا ما هو من فعله، يعني كونه يتألم بالكسر أو ما أشبه ذلك ما هو من فعله، لكن غالبا فيه معاناة نفسية، تعب نفسي؛ لأن الإنسان قد يرى أن من التفريج عن نفسه أن يلطم خده ولّا يشق ثوبه ولّا ينتف شعره وما أشبه ذلك، قد يخفف عنه وإن كان هذا من الشيطان، لكنه يَصْبِرُ نفسه عن هذا الأمر فهذا تعب نفسي.
أي الأنواع الثلاثة أفضل؟ الصبر على الطاعة، أو عن المعصية، أو على أقدار الله المؤلمة؟ الصبر على الطاعة أفضل وأقرب إلى الله؛ ولهذا تجدون من الطاعات ما هو من فرائض الإسلام، أركان الإسلام كلها أفعال طاعات، لكن منهيات غير الشرك ما تصل إلى هذا الشيء؛ فلهذا نقول: الصبر على الطاعة أفضلها، ثم الصبر عن المعصية؛ لأنه اختياري وفعلي، أنت تقدر تفعل ولا تفعل، الصبر على الأقدار المؤلمة هو أدناها؛ وذلك لأن الإنسان كما قال بعض السلف: إما أن يصبر صبر الكرام أو أن يسلوا سُلُوَّ البهائم؛ يعني هو لو مثلا تضجَّر وعجز عن الصبر الآن حين المصيبة، آخر ما له؟ غصبا عليه بيصبر، يسلو ولا كأنها صارت، يوسف عليه الصلاة والسلام كان له عدة أنواع من الصبر؛ عنده الصبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار المؤلمة. صبره على الأقدار المؤلمة ظاهر أو لا؟ على ما فعل به إخوته وما كادوا له، وصبره عن المعصية؟ ظاهر أيضًا حين دَعَته امرأة العزيز إلى نفسها ولكن الله سبحانه وتعالى أنقذه حين فزع إليه: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف ٣٣] لمَّا لجأ إلى الله عز وجل بصدق ماذا كانت النتيجة والجواب؟ ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [يوسف ٣٤] سبحان الله العظيم! خلك يا الإنسان دائما تلجأ إلى الله عز وجل، وأحيانا يكون مع الإنسان غفلة عن الله، ثم يصاب بالمصيبة ليلجأ إلى الله حتى يذكر؛ لأن الإنسان مع كثرة النعم وعدم المصائب ينسى ويستمر في هذه الأشياء في هذه النعم يمشي معها ويغفل، لكن إذا أصيب بنكبات حينئذ يرجع إلى الله عز وجل ويصبر، يوسف عليه الصلاة والسلام لجأ إلى الله فأجاب الله دعوته ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ﴾. هل له صبر على الطاعة؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: وأيش؟
* طالب: صبره على الدعوة إلى الله في السجن، جلس يدعو إلى الله عز وجل. وطلبه تزكية عرضه عليه الصلاة والسلام. أيضًا ﴿مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾.
* الشيخ: يعني عدة مسائل، وكذلك أيضًا قيامه بالملك وتنظيمه، نعم، كل هذه من الصبر على الطاعة، طيب ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ وأيضًا استعينوا بالصبر على مشاقِّ الأمور ومكابداتها، وما أحسن أن يكون الإنسان صابرا منتظرا للفرج؛ لأن النبي ﷺ يقول: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»(١٠)؛ لأنه إذا كان منتظرًا للفرج هان عليه الصبر؛ لأنه يؤمل أن الأمور ستزول وأن دوام الحال من المحال، فإذا كان يؤمل الأجر في الآخرة، ويؤمل الفرج في الدنيا؛ هان عليه الصبر كثيرا، وهذا لا شك أنها من الخصال الحميدة التي جاء بها الإسلام، وهو أيضًا دليل على أن الأمور تسهل بشو؟ بالصبر، مهما بلغت بك الأمور اصبر فتهون؛ ولهذا جعل الله تعالى الصبر عونا فقال: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ كذلك بالصلاة، الصلاة أي الصلاة؟ وأيش الصلاة؟ الدعاء؟ لا، الصلاة الشرعية؛ ولهذا كان نبينا صلوات الله وسلامه عليه «إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزِع إلى الصلاة »؛ الصلاة من أكبر العون على الأمور، لماذا؟ لأن المصلي يقف بين يدي حبيبه سبحانه وتعالى، بين يدي الله، فينسى كل ما سواه، ولكن ترى هذه صلاة الأوابين، ما هي صلاة اللَّعَّابين، نعم، صلاة الأوابين لا صلاة اللعابين، نسأل الله أن يتوب علينا! إذا وقف بين يدي ربه نسي كل شيء، فأقبل عليه واطمئن به وصار له في قلبه نور، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «الصَّلَاةُ نُورٌ»(١١) هذا الفرح والسرور والانشراح يهوّن عليك الأمور ولّا لا؟ طبعا يهون، قطعا يهون عليك، قطعا ما هو طبعا، قطعا يهون عليك الأمور؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ»(١٢) يهوِّن عليك الأمور فتسهل عليك الصعاب، ثم إن في نفس الصلاة أيضًا أمكنة للدعاء تدعو الله تعالى أن يعينك على هذه الأمور، فتكون الصلاة نفسها عونا وما تتضمنه من الدعاء أيضًا عونا، فيستعين الإنسان بها على كل مهماته وملماته، فالصلاة أمرها عظيم لمن أتى بها على الوجه المشروع، لكن مع الأسف إننا أضعنا الصلاة، نسأل الله أن يتوب علينا! ندخل فيها ونخرج منها، ونحن على ما دخلنا بل إنها بعضُ الناس لا تزيده من الله إلا بُعدًا، نسأل الله السلامة! إذن الاستعانة بالصلاة أمرٌ أمرَ الله به، افرض مثلا أنك كنت في ضائقة من أهلك ضاقت عليك الدنيا، المرأة تبغي، والولد يبغي، وما أشبه ذلك، فتوضأت واتجهت إلى الله وكنتَ تخاطبه بكلامه وتدعوه بحاجاتك، تنسى، فتخرج وكأن الدنيا كلها أمامك واسعة، ونور يتلألأ فتسهل عليك الأمور وتهون عليك، والذي أمرنا بذلك ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ هو عالم بذلك سبحانه وتعالى، عالم به وهو رحيم بنا، لولا أن هذا الدواء ناجح وناجع ما أمر الله به، ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.
* طالب: الحديث هو قد ضعف؟
* الشيخ: أيهم؟
* طالب: أن «النبي ﷺ إذا حَزَبَهُ أمرٌ فَزِعَ إلى الصلاة »(١٣) لكن تشهد له الآية (...).
* الشيخ: إي نعم، الآية تشهد به وأشوف ما يستدلون به شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير كلهم يستدلون به.
﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هذه بشرى عظيمة لمن صبر، ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ولم يقل مع المصلين، لماذا؟
* طالب: لأن الصلاة من الصبر.
* الشيخ: لأن الصلاة طاعة، وقلنا: إن من أقسام الصبر: الصبر على طاعة الله، هذا وجه، الوجه الثاني: أن الصبر أشق بالاستعانة به من الصلاة؛ لأن الصبر مر يا جماعة، الصبر مر.
الصَّبْرُ مِثْلُ اسْمِه ِ مُرٌّ مَذَاقَتُهُ ∗∗∗ لَكِنْ عَوَاقِبُهُ أَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ
نعم، فهو مُرٌّ يكابده الإنسان ويعاني، ويحصل له انفعالات ويتغير دمه ووجهه ويصابر ويكابد، حتى إنه يكاد مَن يراه يقول: هذا مريض؛ فلهذا جاءت المعية للصابرين ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ نعم، وجواب ثالث: أنه إذا كان مع الصابرين فهو مع المصلين من باب أولى، بدليل أنه ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام «أن الإنسان المصلي يناجي ربَّه، وأن اللهَ قِبَلَ وجهِهِ »(١٤) وهو على عرشه سبحانه وتعالى، فعلى هذا يكون الجواب من ثلاثة أوجه؛ إذا قال قائل: لماذا لم يقُل في الآية: إن الله مع الصابرين والمصلين؟ فالجواب، عد لنا الوجه الأول؟
* طالب: أن الصلاة من الصبر.
* الشيخ: نعم، من الصبر فتكون داخلة فيه، والوجه الثاني؟
* طالب: الصبر أعم.
* الشيخ: هذا الذي قاله، سبحان الله!
* طالب: إن الصبر أشد من الصلاة.
* الشيخ: إي نعم، إن مكابدة الصبر أشق؛ فلهذا جاءت المعية للصابرين لينشطوا على هذا الأمر، الوجه الثالث؟
* طالب: إن الله إذا كان مع الصابرين فهو من باب أولى مع المصلين.
* الشيخ: فهو مع المصلين من باب أولى كما جاءت به السنة، خذوا بالكم يا جماعة، أنا في ظني أن هذه الأوجه الثلاثة يمكن أنا أدورها بعد أيام ما ألقيها، يمكن أنا أدورها ما ألقيها؛ لأن أحيانا الإنسان مع الشرح يمكن يجيب الله له أشياء ما كان تخطر على باله، ويتطلبها في يوم من الأيام ويلاقيها رايحة، فأنتم احرصوا على هذه المسائل، طيب عندنا: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ هذه المعيّة خاصة ولّا عامة؟
* طالب: خاصة.
* الشيخ: هذه خاصة؛ لأن كل معية تضاف إلى سبب يقتضيها فهي معية خاصة، كل معية تضاف إلى سبب يقتضيها فهي معية خاصة، إن ﴿اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١٩٤] أضيفت إلى التقوى وهو سبب، ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾، ﴿لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت ٦٩]، ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ وما أشبه ذلك، أما المعية المطلقة التي يقصد بها إحاطة الله عز وجل بخلقه علمًا وقدرة وسمعًا وبصرًا، فهذه تسمى معية عامة؛ لأنها ما قُيدت بأحد، بل هي عامة، ولها أمثلة كثيرة في القرآن، منها ما هو عام لجميع الخلق، ومنها ما خُصص بقوم تهديدا لهم، مثال العامة لجميع الخلق: قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [المجادلة ٧] فقوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ﴾ عام ولّا خاص؟
* طالب: خاص.
* طالب آخر: لا، عام.
* الشيخ: لا، عام عام، أيّ ثلاثة يتناجون؛ مؤمنين، كافرين، فُجّار، أبرار الّلي يكون، ﴿وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾، وكذلك قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الحديد ٤] هذه عامة، وقد تكون خاصة لكنها لا تقتضي النصر والتأييد، وإنما تقتضي التهديد، فهي من قسم العام المقيد كما في قوله تعالى: ﴿يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء ١٠٨] هنا لا شك أنها ليس المراد معهم بالنصر والتأييد، لماذا؟ لأنهم لا يستحقونه، لكن المراد تهديدهم بهذه الإحاطة، عندنا عامة مطلقة، وعامة مقيدة بقوم للتهديد، الخاصة أيضًا تنقسم إلى قسمين: مقيدة بوصف، ومقيدة بشخص، المقيدة بوصف مثل؟ ﴿مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١٩٤] إلى آخره، والمقيدة بشخص؛ كقوله تعالى لموسى وهارون: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦]، وقوله لنبيه عليه الصلاة والسلام حاكيا عنه أنه قال لأبي بكر: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾؛ ثم هذه المعية بأقسامها لا تقتضي أن يكون الله تعالى حالا في الأرض، فهي ليست معية حلول واختلاط؛ لأن ذلك أمر مستحيل على الله عز وجل، ولم يفهم أحد هذا الفهم إلا مَن اجتالَتْهُ الشياطين فأخرجته عن فطرته، وإلَّا مَن كان جاهلا باللغة العربية أيضًا، فلا أحد يتصور هذا التصور أو يقول هذا القول؛ أنها معية حلول وأن الله سبحانه وتعالى معنا في المكان إلا من جهل الله عز وجل ولم يقدره حقَّ قدره، وكذلك أيضًا جهل المعنى في اللغة العربية، أرجو تنتبهوا لهذا الأمر؛ لأنه أمر مهم، فالذين فهموا هذا الفهم هم الجهمية والمراد قدماؤهم؛ لأن متأخري الجهمية تركوا هذا المسلك وسلكوا مسلك التعطيل المحض؛ حيث قالوا: إن الله تعالى ليس داخلَ العالم ولا خارج العالم، ولا متصل ولا منفصل.. إلى آخر ما تقدَّم لنا في العقيدة، لكنّ متقدِّميهم كانوا يقولون بالحلول. ومن الغرائب أو من العجائبِ والعجائب جمَّةٌ
أن هؤلاء القوم يقولون: إن الله معنا في الأرض -والعياذ بالله- وينكرون أن يكون في السماء، ينكرون أن يكون في السماء، فانقلبوا بعقولهم رأسا على عقب، ثم جاء قوم تكيّسوا فتكايسوا، فقالوا: إننا نقول: إن الله معنا في الأرض، وهو على عرشه في السماء؛ يريدون بزعمهم الجمع بين النصوص، ولكنهم في الحقيقة تكايسوا ونُكسوا على رؤوسهم؛ لأن هذا ليس جمعا بين النصوص، بل هذا في الحقيقة إبطال للنصوص، فكيف يكون الله عز وجل فوق عرشه بذاته وفي الأرض بذاته؟! هذا ممكن؟ غير ممكن أبدًا، إلا أن يكون -العياذ بالله- بتعدد الخالق.
ولا يمكن أن يحل في الأرض، وهذا قول تبطله الأدلة السمعية والعقلية والفطرية، القرآن والسنة مملوءان بما هو نص أو ظاهر بأن الله تعالى في السماء، والعقل أيضًا يدل على أن الله تعالى في السماء، يدل على ذلك كما قدمنا من وجهين: الوجه الأول: أن العلو صفة كمال ولَّا صفة نقص؟
* الطلبة: صفة كمال.
* الشيخ: صفة كمال، فإذا كان صفة كمال لزم أن يكون ثابتًا لله؛ لأن الله تعالى موصوف بالكمال المطلق، كما قال الله تعالى: ﴿وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [الروم ٢٧].
الوجه الثاني من الأدلة العقلية على علو الله أن يقال: العلو ما الذي يقابله؟
* الطلبة: السفل.
* الشيخ: السفل، والسفل بلا ريب صفة نقص والله تعالى منزه عن النقص، فوجب ثبوت العلو له، أما الفطرة: فلا تسأل عنها، اذهب إلى عجوز قريبة من الحرم وقل لها: أين الله؟ ماذا تقول؟
* الطلبة: في السماء.
* الشيخ: في السماء، ائتِ للصبيان في مدارسهم قل لهم: أين الله؟ يقولون: في السماء، اسأل أي إنسان خائف أو داعي: أين يرتفع قلبه؟
* الطلبة: إلى السماء.
* الشيخ: إلى السماء، اسأل المسلمين جميعًا وهم يقولون في سجودهم: سبحان ربي الأعلى أين يجدون قلوبهم ترتفع؟
* الطلبة: إلى العلو.
* الشيخ: إلى العلو، ما فيها إشكال، إذن فالفطرة دالة على ثبوت علو الله عز وجل. إجماع المسلمين ما عدا أهل التعطيل على أن الله في السماء، هذا أمر واضح، على هذا يكون من زعم أن معية الله للخلق معية حلول واختلاط فإن قوله يبطل بهذه الأدلة، كل دليل يدل على العلو فإنه يدل على بطلان القول بمعية الحلول والاختلاط واضح؟
فعلى هذا تكون معية الله تعالى لخلقه معية تليق بجلاله وهو سبحانه وتعالى فوق عرشه؛ لأن الله تعالى جمع بينهما في آية واحدة ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد ٤]. وكل شيئين جمع الله بينهما فإنهما لا يمكن أن يتناقضا.
قلنا: إن الذي يقول بمعية الحلول والاختلاط مخالف للأدلة الشرعية المثبتة لعلو الله، كذلك أيضًا هو لا يعرف اللغة العربية؛ لأن اللغة العربية هل تقتضي حقيقة المعية فيها أن يكون الشيء مخالطًا للشيء، أو حالًّا معه في مكان مجتمعًا معه في مكانه؟
لا، ليس كذلك، الإنسان مثلًا يقول: زوجتي معي وهي في البيت وهو في المسجد أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: وهذا حقيقة، هذه معية حقيقية مع أنها في مكان وهو في مكان، كذلك أيضًا الضابط أو القائد يقول للجنود: اذهبوا إلى المعركة فأنا معكم، حقيقة ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: هو حقيقة، تطلق هذه الكلمة حقيقة مع تباين المكانين ولَّا لا؟ الصبيان الآن يتداركون ويتزاعلون، يجي واحد ولد الجيران يقول: تعال، أنت معي ولا معه؟ أنت معي ولا معه صح ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: حقيقة مع أن كل واحد بيذهب إلى بيته، فالمعية في اللغة العربية لا تقتضي حقيقتها، قصدي لا تستلزم وهو لا تقتضي، لا تستلزم حقيقتها الحلول والاختلاط بين الشيئين. وأقول: لا تستلزم، ولا أقول لا تقتضي؛ لأنها قد تقتضي ذلك، كما لو قيل مثلًا: الماء قدم لي لبنا مع ماء؛ أي مخلوطًا به، وكما يقال: الروح مع البدن؛ أي مختلطة به، وهذا نعم قد تقتضيه، لكنها لا توجبه اللغة العربية، ولهذا قال شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية : وليس معنى قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد ٤] أنه مختلط بالخلق فإن هذا لا توجبه اللغة العربية، قال: لا توجبه، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان.
فالمهم يا جماعة لا تظنوا أن القرآن يناقض بعضه بعضًا.
* الطلبة: حاشاه.
* الشيخ: وأنه إذا ثبت أن الله معنا فإنه ينافي أن يكون الله في السماء، فإن هذا غير ممكن، بل نقول: إن القرآن يصدق بعضه بعضًا، ويثبت بعضه بعضًا، ولكن من الناس- من نسأل الله لنا ولكم السلامة- من في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه لأجل فتنة الناس؛ ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وتعطيله عما أراد الله.
* طالب: شيخ، من قال منهم أن المعية تخصيص ما في التعميم أول شيء؟
* الشيخ: كيف؟
* الطالب: إذا خصصنا قلنا: المعية العامة معية حقيقية على معية الله عز وجل، وقلنا: المعية خاصة، هناك معية خاصة هل يناقض التخصيص التعميم؟
* الشيخ: لا ما يناقضه، يعني المعية الخاصة يجب أن تؤمن بأنها مجتمعة مع المعية العامة؛ بمعنى إذا قيل ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٣] ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل ١٢٨] فليس معناها أنها معية خاصة مجردة عن المعية العاملة فإنه سبحانه وتعالى مع هؤلاء أيضًا بالعلم والإحاطة والمعنى العام.
* طالب: يا شيخ، ومن قال منهم تأول المسألة هذه يعني قال إنه في كل مكان مع أنه على عرشه وقال: إذا كان ينزل إلى سماء الدنيا وهو على عرشه سجانه وتعالى فقد يخلو توقيفه في هذا ما يقال يخلو منه العرش ولا يخلو، لكن إذا كان ينزل إلى السماء الدنيا، فلا يمانع أن الله ليس كمثله شيء؟
* الشيخ: لا، لا، هذا ما يمكن، هذا ما يمكن، لا ما يمكن، حتى النزول إلى السماء الدنيا ما يجوز أن نقول: إن السماء الثانية تكون فوقها ما يجوز نقول هكذا.
* طالب: نقول على قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى ١١].
* الشيخ: لا لا، ما يكفي؛ لأنه كما قال شيخ الإسلام: لا يجوز أن نعتمد في إثبات الصفات على نفي المشابهة والمماثلة؛ لأن المعاني اللي هي في نفسها مناقضة لكمال الله ما تُثبت، ولو قلنا على وجه لا يشبه صفات المخلوقين، فهذه مسألة ينبغي التنبه لها؛ يعني ليس كل شيء نثبته لله ونقول: ليس على ما يشبه صفات المخلوقين، إذا كان نقصًا فهو منفي عن الله عز وجل مطلقًا.
لو قال قائل مثلًا: أنا بأثبت أن الله سبحانه وتعالى يتعب لا كتعب المخلوقين مثلًا أيش نقول؟
* الطلبة: هذا خطأ.
* الشيخ: نقول: هذا خطأ، فكل صفات النقص ما يجوز إثباتها لله مطلقًا، ثم صفات الكمال التي أثبتها الله لنفسه هي التي نقول فيها: على وجه لا يماثل صفات المخلوقين؛ لأنه ما يكفي في نفي النقائص عن الله أن نثبت له النقص ثم نقول: لا تشبه هذا ممنوع، ومسألة خلو العرش منه إذا نزل إلى سماء الدنيا أو عدم خلوه يقول شيخ الإسلام: إن الأرجح عدم الخلو العرش منه؛ لأن العلو ثابت صفة من الصفات الذاتية.
وقال بعض العلماء: إن الذي ينبغي لنا أن نسكت؛ يعني المسألة فيها ثلاثة؛ أقوال: قول أنه يخلو العرش منه وينزل إلى السماء الدنيا وعلى أي كيفية ما ندري كيف ينزل، المهم أنه سبحانه وتعالى يقرب من عباده بهذا النزول.
والقول الثاني: يقولون: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، والله على كل شيء قدير، ولا ندري كيفيته.
والقول الثالث: التوقف، التوقف عن هذا، نُعرض عن هذا كله بألسنتنا وقلوبنا، ونقول: إن الله ينزل وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم ما أوردوا على النبي عليه الصلاة والسلام هذا السؤال: هل يخلو منه العرش أو لا يخلو؟ فما دام ما أوردوه فإنه ينبغي أن لا نورده نحن عن أنفسنا ولا عن غيرنا، وهذا قول فيه سلامة، ولكن شيخ الإسلام يقول: إن الأكثر على أنه لا يخلو منه العرش؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء.
قال: ﴿اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال ٤٦] ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٣].
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ﴾ [البقرة ١٥٤] (لا) ناهية، وتقولوا: فعل مضارع مجزوم بـ (لا) الناهية، وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل.
﴿لِمَنْ يُقْتَلُ﴾ أي فيمن يقتل؛ لأن المقتول ما يقال له شيء، قد قتل، لكن المعنى فيمن يقتل في سبيل الله.
﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة ١٥١].
* يستفاد من هذه الآية الكريمة: بيان نعمة الله سبحانه وتعالى علينا بإرسال الرسول.
أنا أعتبر اللي يأتي بس يحضر أعتبره مستمعًا وليس طالبًا، ولهذا ما يشعر بأنه جاء يتلقى تلقيًا كاملًا، فأن أحب أن الإنسان يحرص لما كنا في الطلب، الإنسان منا ما يأتي إلا بكتاب؛ إما نشتريه ولَّا نستعيره، المهم ما يأتي الواحد مثلًا بيديه فقط ونحن لسنا على مستوى اللي عليه الأولون؛ يحضر واحد ويُلقي قصيدة مئة بيت وينصرف والناس كلهم حفظوها، ما نحن على مستوى هذا حتى نقول: نكتفي بأن الواحد يأتي بيديه فقط، فأنا أرجو من الإنسان اللي بينتظم إن شاء الله إنه يحرص يدور الكتب التي نحن نقرؤها، يدورها ويحضرها.
قال الله تعالى: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾. أقول: * يستفاد من هذه الآية الكريمة: بيان نعمة الله علينا بإرسال الرسول ﷺ. ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ لأن هذه الآية متعلقة بقوله: ﴿وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة ١٥٠]. فإن هذا من تمام النعمة.
ومنها: أن كون الرسول منا فيه زيادة فائدة؛ لأنه أقرب إلى التصديق مما لو كان أجنبيًّا، ولهذا ما بعث الله نبيًّا إلا في قومه إلا رجلًا واحدًا فقط بعثه الله في قومه وفي غير قومه، وهو؟
* الطلبة: محمد عليه الصلاة والسلام.
* الشيخ: لا، محمد على عموم الناس، كل الناس قومه.
* طالب: شعيب.
* الشيخ: شعيب، شعيب أرسل إلى قومه وإلى أصحاب الأيكة.
* طالب: ما هم واحد يا شيخ؟ أصحاب الأيكة ما هم واحد؟
* الشيخ: لا، قبيلتين.
* من فوائد الآية: أن النبي ﷺ لم يقصر في البلاغة، وأنه بلغ جميع ما أوحي إليه لقوله ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ [البقرة ١٥١] فإن هذا يدل على أن جميع الآيات التي أوحاها الله إليه قد تلاها.
ومنها: أن من فوائد رسالة النبي عليه الصلاة والسلام حصول العلم؛ لأن هذه الآيات كلها علم لقوله: ﴿يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا﴾ [البقرة ١٥١].
* ومن فوائدها أيضًا: أن الشريعة التي جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام كلها تزكية للأمة وتنمية لأخلاقها ودعوة للأخلاق الفاضلة، ولهذا كان من القواعد المقررة في الشريعة أنها تأتي بالمصالح الخالصة أو الراجحة، وتنهى عن المفاسد الخالصة وأيش بعد؟ أو الراجحة.
الشريعة تأتي بالمصالح الخالصة اللي ما فيها مفاسد إطلاقًا، أو الراجحة فيما إذا اشتمل الفعل على مصلحة ومفسدة لكن مصلحته أرجح، وتنهى عن المفاسد الخالصة وأيش بعد؟
* الطلبة: أو الراجحة.
* الشيخ: أو الراجحة، الخمر فيه مصالح ومفاسد، لكن مفاسده راجحة فلذلك حُرِّم، فلهذا حرم، الحجر على السفيه فيه مصالح وفيه مفاسد لكن مصالحه راجحة، فلذلك قُدم، قدمت المصالح، أو مصالح خالصة ما فيها مفاسد كعبادة الله مثلًا، هذه قاعدة الشريعة، ولهذا قال: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن كل ما فيه تزكية للنفوس فإن الشريعة قد جاءت به لقوله: ﴿وَيُزَكِّيكُمْ﴾.
* ومن فوائدها: أن من وظيفة الرسول عليه الصلاة والسلام ومهمته التي جاء بها أنه يعلمنا الكتاب والحكمة، الكتاب هو القرآن، والحكمة قيل: إنها السنة، وقيل: ما تتضمنه الشريعة من الأسرار والحكم.
* ومن فوائد الآية: الرد على أهل التأويل وأهل التجهيل. وأيش معنى التجهيل؟
* الطالب: أهل التأويل اللي يؤولون.
* الشيخ: إي نعم، اللي يؤولون آيات الصفات؛ لأننا نقول لهم: لو كان هذا التأويل من العلم لأيش؟
* الطلبة: لعلمنا إياه النبي.
* الشيخ: لعلمنا إياه النبي عليه الصلاة والسلام، فلما لم يعلمنا إياه علمنا أنه ليس من العلم الذي جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى أهل التجهيل، الرد على أهل التجهيل، مَن هم أهل التجهيل؟
أهل التجهيل: طائفة يقولون: إن الرسول ﷺ وأصحابه والأمة كلها لا تعلم معاني آيات الصفات وأحاديثه، ما يدرون أيش معناها، حتى النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم بالحديث من صفات الله ولا يدري أيش معناها، يسمون هؤلاء أهل التجهيل، يقولون مثلًا: النبي عليه الصلاة والسلام ما يدري وأيش معنى قوله: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه ٥]، لو تسأل النبي ﷺ وأيش معناه؟ قال: ما أدري، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: «يَنْزِلُ رَبُّنَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ»(١٥) ولو سألته ما معنى ينزل لقال: لا أدري، هؤلاء يسمون أهل التجهيل.
* الطالب: هم يزعمون هذا هو العلم؟
* الشيخ: إيه، يقولون: هذا هو العلم، أن تقول عما لا تعلم: لا أعلم. هذه الآية ترد على طائفتين جميعًا؛ لأنه قال: ﴿يُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن الرسول عليه الصلاة والسلام علم الأمة لفظ القرآن ومعناه، ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ [النحل ٤٤] في القرآن؟ ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ﴾ وأيش بعد الآية؟
* الطلبة: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ﴾.
* الشيخ: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ الرسول ﷺ كما بين لكم القرآن ولم يكتم منه حرفًا واحدًا فقد بيَّن معناه، ولهذا إذا استشكل الصحابة شيئًا من المعنى سألوه فعلمهم، ولكن الغالب أنهم ما يستشكلون؛ لأنه نزل بلغتهم وفي عصرهم، يعرفون معناه ومغزاه وأسبابه فلا يُشكل عليهم.
إذن النبي عليه الصلاة والسلام* يستفاد من هذه الآية: أنه علمهم لفظ القرآن ومعنى القرآن.
* ومن فوائد الآية: اشتمال الشريعة على الحكمة، من أين تؤخذ؟
* الطالب: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
* الشيخ: أي الكلمتين؟
* الطالب: الحكمة.
* الشيخ: الحكمة، فالشريعة متضمنة للحكمة تضمنًا كاملًا، فما من شيء في مأموراتها ومنهياتها إلا وهو مشتمل على الحكمة، لكن يرد علينا سؤال: هل الحكمة معلومة لنا؟
* طالب: قد تكون معلومة.
* الشيخ: قد تكون معلومة وهو الأكثر، وقد تكون مجهولة، لكن هنا حكمة لازمة لكل حكم، وهو طاعة الله ورسوله، فإن هذه حكمة، هذه أعظم الحكم وهي ثابتة فيما نعقل حكمته وفيما لا نعقلها، ولهذا لما قالت عمرة لعائشة رضي الله عنها: «مَا بَالُ الْحَائِضِ تَقْضِي الصَّوْمَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ قَالَتْ: كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ »(١٦) فبينت الحكمة من ذلك وهو طاعة الله ورسوله، وهذه حكمة لازمة في كل حكم سواء عُقل معناه أم لم يعقل، واضح؟ ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾.
* ومن فوائد الآية: أن الأصل في الإنسان الجهل لقوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ فالأصل في الإنسان الجهل، قال الله تعالى: ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب ٧٢] وقال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل ٧٨] ﴿لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ ثم قال: ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ [النحل ٧٨] فبين طرق العلم السمع ﴿وَالْأَبْصَارَ﴾ وبهما الإدراك، ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ وبها الوعي والحفظ.
وقوله: ﴿يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ إذا قال قائل: اضربوا لنا مثلًا وأيش نقول؟
* الطالب: الصلاة.
* الشيخ: نعم، كل الشريعة مثال، هل نحن نعرف كيف نصلي؟
* الطالب: لا.
* الشيخ: إلا بتعليم الرسول ﷺ، ما يعرف الإنسان كيف يتوضأ، ما يعرف ما الواجب في أموالهم من الزكاة، ولا يعرف من تُصرف إليهم الزكاة، هذه أحكام شرعية ما نعرفها، وفيه أحكام قدرية ما نعرفها أيضًا، علّمنا إياها الرسول ﷺ، هل نحن نعلم أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام؟
* طالب: ما علمنا إلا بعلم.
* الشيخ: إلا بعلم الرسول عليه الصلاة والسلام، هل نعلم أنا خلقنا من آدم وآدم من تراب؟ ما نعلم إلا بما علمنا الرسول عليه الصلاة والسلام. هل نعلم أن الواحد منا يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك إلى آخره؟ إلا بتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذن فعلومنا الكونية والشرعية من أين هي متلقاة؟ من الرسول عليه الصلاة والسلام.
هل نعلم أن أسباب نزول المطر أن الله يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا، ويأمره فينزل المطر إلا بتعليم الرسول عليه الصلاة والسلام؟
ومن هنا نعرف أن العلم الذي جاء به النبي عليه الصلاة والسلام من علوم الكون النافعة سابق على علم أولئك الذين يفتخرون بعلومهم، فالعلوم النافعة الكونية والشرعية أصولها جاء بها النبي عليه الصلاة والسلام، صحيح أن بعض تفصيلاتها ما جاء بها؛ لأنكم تعلمون أنه قد تصدى له قوم في عهده يردون دعوته، فإذا جاء بما لا تدركه عقولهم من أمور الكون فقد يجعلون من ذلك ذريعة إلى التشهير به وتكذيبه كما فعلوا في قصة الإسراء والمعراج.
والحاصل يا إخواننا أن قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ عام، علمنا ما لم نكن نعلم من أمور الكون وأمور الشرع.
ومن نعمة الله عز وجل أن أمور الكون جعلها الله سبحانه وتعالى، ذكر أصولها، لكن جعل تفاصيلها موكولة إلى التجارب، وأيش لأجله؟ لأجل يدركها الإنسان بعقله، ما ظنكم لو أن القرآن الكريم فصَّل جميع ما في العقاقير من مضادات حيوية وغير حيوية وما أشبه ذلك كم يصير القرآن من مجلد؟
* الطلبة: يصير مجلدات.
* الشيخ: مجلدات عظيمة لا يستطاع حفظه، وتمل تلاوته، ويشق على الناس التزامه، لكن جعل هذه الأمور لها أصولًا ثم جعل فروعها، الأمور الكونية خاصة، الأمور الشرعية إلى الله ورسوله ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾ [الشورى ١٠] لكن الأمور الكونية وُكلت للإنسان، ذُكرت الأصول والتوجيهات العامة، ثم قيل للإنسان: اعمل، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ﴾ [الملك ١٥]. ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية ١٣]. فتحت لنا الأبواب وعلينا أن نعمل.
والحاصل أن قوله: ﴿وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ عام، وأنا لو أورد عليَّ إنسان وقال: طيب وأيش يدرينا الآن على علم الكيمياء هو موجود بالقرآن؟ نعم، نقول: الأصول موجودة، لكن التفاصيل موكولة إلى تجارب الناس؛ لأن هذا الحكمة تقتضيه.
ثم قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة ١٥٢].
* يستفاد من هذه الآية: وجوب ذكر الله، من أين نأخذها؟
* طالب: من الأمر.
* الشيخ: من الأمر، نعم ووجوب ذكر الله، مطلق الذِّكر واجب، يجب على كل إنسان أن يذكر ربه، بل كل مجلس يجلسه الإنسان ولا يذكر الله يكون عليه تِرة خسارة وحسرة يوم القيامة، فأنت مأمور بذكر الله، لكن ذكر الله ينقسم إلى فريضة من فرائض الإسلام، وإلى واجب ومن واجباته، وإلى سنة من سننه بحسب ما تقتضيه الشريعة التفصيلية، إنما مطلق الذكر وأيش حكمه؟
* طالب: واجب.
* الشيخ: واجب ﴿فَاذْكُرُونِي﴾.
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن من ذكر الله ذكره الله، من أين تؤخذ؟
* الطلبة: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾.
* الشيخ: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ لأن ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ جواب الأمر، جواب الأمر، ولهذا جُزمت، ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾، فهمتم؟
* ويستفاد من الآية الكريمة: أن ذكر الله للعبد كذكر العبد لله، أي أنه إذا ذكر الإنسان ربه في نفسه ذكره الله في نفسه، وإذا ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منهم، من أين نأخذها؟
* الطلبة: من الحديث.
* الشيخ: لا، ما هو من الحديث من الآية.
* طالب: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾.
* الشيخ: وأيش وجهه أنه إن ذكره في ملأ ذكره في ملأ خير منه، وإن ذكره في نفسه ذكره في نفسه؟
* الطالب: الحديث؟
* الشيخ: لا ما نبغي الحديث، نبغي من الآية؟
* الطالب: لأن ذكر الله للعبد أعظم من ذكر العبد لله.
* الشيخ: لا.
* طالب: لأنه قال: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ ولم يفصل.
* طالب: شيخ؛ لأنه قال: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ وأذكركم جزاء، والجزاء موافق للعمل.
* الشيخ: صح؛ لأن ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ جواب لقوله: ﴿اذْكُرُونِي﴾ وجزاء، والجزاء مرتب على العمل يكون من جنسه، فإذا كان الله عز وجل جعل العقوبة بقدر الذنب فالمثوبة أيضًا بقدر العمل، فوجه الدلالة؛ أنه جعل قوله: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ جوابًا على قوله: ﴿اذْكُرُونِي﴾، والجواب والجزاء يقتضي أن يكونا متساويين، بمعنى أن هذا على وصف هذا.
* ومن فوائد الآية: فضيلة الذكر، هذه الفائدة الثالثة أظن؟
فضيلة الذكر؛ لأن به يحصل ذكر الله للعبد، وذكر الله للعبد هذا أمر يعني له شأن كبير، شأن عظيم ولَّا لا؟
* الطلبة: إي نعم.
* الشيخ: نضرب مثل: هذا إنسان قدم عليه رجل من السفر ولما سلم عليه قال: والله الملك يسأل عنك، وأيش يصير هذا الذي قيل له: الملك يسأل عنك؟ وأيش يصير؟ يفرح؟
* الطلبة: أكيد.
* الشيخ: ما شاء الله (...) يفرح، أنا أنا يذكرني الملك؟! عاد ملك الملوك إذا ذكرك وأيش يكون المنزلة؟ أعظم وأعظم ما يخطر بالبال، ولهذا تكلمنا قبل يعني مرارًا أنه ليس الشأن بأن تذكر الله أو بأن تحب الله، ولكن الشأن أن يذكرك الله، اللهم اذكرنا فيمن عندك.
الشأن أن يذكرك الله عز وجل، وأن يحبك الله، ولهذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ [آل عمران ٣١] فجعل الجواب ما قال اتبعوني تصدقوا في دعواكم قال: ﴿يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ﴾ يعني تناله أن الله يحبكم.
* ومن فوائد الآية: وجوب الشكر لقوله: ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ وبالمقابل تحريم الكفر، كفر النعمة بأن تُصرف في غير وجهها، فيستعان بها على معصية الله، أو تُمتهن وتذل، ولا تستعمل فيما خلقت له، ولهذا أخبر النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل كان يسوق بقرة، نسيت هل هو راكبها أو غير راكبها، المهم أنها التفتت إليه وقالت: إنا لم نخلق لهذا، إنا لم نخلق لهذا(١٧)، فالنعمة إذا صرفت في غير ما خُلقت له فهو نوع من الكفر، خلق الله لنا الطعام لنأكله، فإذا ألقيناه في المزابل كأننا قلنا: ما نبغي فضل الله، في غنى عنه، نسأل الله العافية، فالنعمة إذن شكرها أن تصرف في طاعة المنعِم وفيما أنعم به، وفي الجهة التي أنعم الله بها علينا من أجلها.
وقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾ يستفاد منه تحريم كفر النعمة لقوله: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾. وعندي إشكال من الناحية الإعرابية لأننا ما تكلمنا وقت التفسير، وهي أنه كيف كسرت نون الأفعال الخمسة مع أن نون الأفعال الخمسة مفتوحة، ﴿كِرَامًا كَاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الانفطار ١١، ١٢] وهنا قال: ﴿وَلَا تَكْفُرُونِ﴾؟
* طالب: الياء محذوفة (...).
* الشيخ: لا ما هي موجودة يا أخي.
* طالب: الياء الياء.
* طالب آخر: (...) أصلها (...) الوقاية.
* الشيخ: أصلها أيش؟
* الطالب: لا تكفروني.
* الشيخ: طيب هذه ﴿تكفرونِ﴾.
* طالب: حذفت الياء في تكفرون.
* طالب: نون وقاية وليست نون الرفع.
* الشيخ: إيه، بس ما ترون؟
* طالب: هذه نون الوقاية (...).
* الشيخ: إي، هذه نون الوقاية، النون هذه للوقاية وليست نون الفعل؛ يعني نون الرفع، وأصلها لو لم تكن مجزومة، هي جُزمت وحذفت النون للجزم، لو لم تُجزم لكانت تكفرونني، نعم ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: تكفرونني لما جُزمت حذفت النون فصارت تكفروني، وأين الياء؟
* الطالب: حُذفت لتوالي.
* طالب: حذفت للترخيم.
* الشيخ: حذفت لا للترخيم بل للتخفيف، حذفت للتخفيف، الترخيم في الندا فقط.
إذن الفعل هنا مجزوم، وعلامة جزمه حذف النون، والنون الموجودة للوقاية، والياء ياء المتكلم محذوفة للتخفيف.
* من فوائد الآية: وجوب ملاحظة الإخلاص، من أين تؤخذ؟
من قوله: ﴿لِي﴾ ﴿وَاشْكُرُوا لِي﴾ يعني مخلصين لله عز وجل؛ لأن الشكر طاعة، والطاعة لا بد فيها من الإخلاص ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف ١١٠].
* طالب: في الآية تقرر أن القرآن كلام الله؛ لأنه أضافه إلى نفسه؟
* الشيخ: إي نعم، فيها أن القرآن كلام الله؛ لأنه أضافه إلى نفسه إي نعم. وقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٣].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ في هذا دليل على فضيلة الإيمان، وأنه من أشرف أوصاف الإنسان، من أين يؤخذ؟ من قوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولا شك أن الإيمان من أفضل أوصاف الإنسان، وكذلك عبودية الله عز وجل- ونسأل الله أن يجعلنا وإياكم من عباده الصالحين- من أشرف أوصاف الإنسان، ولهذا يقول الشاعر في معشوقته يقول:
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَاعَبْدَهَا ∗∗∗ فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي
يقول: لا تقولي: يا محمد، يا علي، يا خالد، تقولي: يا عبد فلانة؛ فإنه أشرف أسمائي. ولهذا وصف الله نبيه محمد ﷺ بالعبودية في أشرف المقامات عند الرسالة، وعند التحدي، وعند النصرة؛ المهم المقامات الشريفة.
* ومن فوائد الآية: الإرشاد إلى الاستعانة بالصلاة لقوله ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ [البقرة ١٥٣].
* ومن فوائد الآية: بيان آثار الصلاة الحميدة، وأن من آثارها الحميدة أنها تعين على الأمور.
* ومن فوائد الآية: جواز الاستعانة بغير الله فيما يكون عونًا فيه لقوله: ﴿اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ﴾ فاستعانة العبادة لله عز وجل والاستعانة بما يكون سببًا للعون، سببًا صحيحًا للعون هي جائزة أيضًا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ تَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ»(١٨).
* ومنها أيضًا من فوائد الآية: أن الاستعانة بالصلاة من مقتضيات الإيمان لقوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا﴾ فإن توجيه الخطاب للمؤمنين يدل على أن هذا من مقتضى الإيمان، مثل أن تقول: يا رجل انتبه؛ المعنى أن من صفات الرجولة، أو من مقتضيات الرجولة الانتباه، وتقول: يا كريم، أعطِ المسكين، ومن مقتضى الكرم إعطاء المساكين، فمن مقتضى الإيمان أن الإنسان إذا حصل عليه ضيق أن يستعين بالصلاة.
* ومن فوائد الآية: فضيلة الصبر أوْ لا؟ لأنه يعين على الأمور، والصبر ثقيل على النفس ثقيل جدًّا؛ لأنه مثلًا تجد الإنسان إذا أصابه شيء أو ضيق وده بس يتحرك، لكن عندما يطمئن نفسه يصبرها يصبر والعاقبة للمتقين، ولهذا قال تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [هود ٤٩] ما قال فاشكر مع إن هذا علم، تلاه الله عليه لكن قال: ﴿فَاصْبِرْ﴾ لأيش قال فاصبر وهو علم يستحق الشكر؟
هذا إشارة إلى إن هذا الوحي الذي نزل على الرسول ﷺ يحتاج إلى صبر وتحمل؛ لأنه سيجد من ينازعه ويضاده، ونظيرها قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾ [الإنسان ٢٣] بعدها ﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان ٢٣] فستجد معارضة وممانعة عظيمة، ولكن لا تطع آثمًا ولا كفورًا، واضح يا جماعة؟
إذن الصبر شاق على النفوس لكن يجب على الإنسان يصبر لو قالت له نفسه الأمارة بالسوء والعجلة: افعل تخلص، لا اصبر، ولهذا من لم يفق للصبر فاته خير كثير، والذي يصبر أيضًا غالبًا ينتظر الفرج، الغالب أن اللي يصبر ولا سيما بإخلاص وحسن نية فإنه ينتظر الفرج، وانتظار الفرج عبادة وباب للفرج لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ»(١٩)، مثلًا رجل أُصيب بحادث في ماله، تعب تعبًا عظيمًا نفسيًّا، لكنه صبر ينتظر الفرج، وما أسرع الفرج! إنسان مثلًا آذاه شخص آذاه؛ إما بماله، أو بعرضه، أو بأهله، المهم أنه آذاه فتجده يصبر ويتحمل وينتظر الفرج فيحصل له، واضح؟
فإذن الصبر من أكبر الأسباب على العون على الأمور الشاقة ولهذا يقولون: إن الصبر مفتاح الفرج، والنبي عليه الصلاة والسلام ما جعله مفتاح الفرج، جعل الكرب مفتاح الفرج، ولكن جعل الصبر مفتاح النصر، وهو أعظم من الفرج؛ لأن الفرج زوال مكروه فقط، لكن النصر حصول مطلوب؛ وهو أعلى لقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «النَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ» أعظم من قول بعضهم: الصبر مفتاح الفرج.
إذن الصبر واجب ولَّا لا؟ نقول: الاستعانة به على الأمور أرشد الله إليها.
وهو واجب في دفع المصائب، يجب أن تصبر على المصائب، وقد سبق لنا أن مقام الإنسان عند المصائب له مقامات كم؟ كم مقامات الإنسان عند المصائب؟
* الطلبة: ثلاثة.
* الشيخ: أو أربع؟ أربع ابدؤوا باللي تعرفونه الأول؟
* طالب: الصبر على طاعة الله.
* الشيخ: لا لا، هذه مواضع الصبر، لكن مقامات الإنسان عند المصائب عند المصيبة خاصة له مقامات أربعة: جزَع، وصبر، ورضا، وشكر، هذه مقامات الإنسان عند المصائب، كل إنسان يُصاب بمصيبة لا بد أن يحصله أحد المقامات الأربعة؛ إما جزع وتسخط، وإما صبر، وهو واجب، وإما رضا؛ وهو على القول الراجح مستحب وليس بواجب، وإما شكر وهو أعلى من الرضا وهو مستحب وليس بواجب بالاتفاق، فالجزع حرام، والصبر واجب بالاتفاق، والرضا واجب على قول ومستحب على القول الراجح، والشكر مستحب بالاتفاق فيما أعلم (...).
﴿وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ﴾ [النساء ١٠٨] أيش المراد بالمعية هنا؟
* الطلبة: الطمأنة.
* الشيخ: التهديد؛ يعنى معناه أنها مقتضية للتهديد؛ فهو شيء فوق الإحاطة؛ التهديد شيء فوق الإحاطة كما أن التأييد والنصر فوق الإحاطة؛ لأن الإحاطة ثابتة في الجميع.
وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ [الحديد ٤] هذه معية الإحاطة والعلم والقدرة والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته.
وقوله ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٣]، ﴿مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة ١٩٤]، ﴿مَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت ٦٩] وما أشبهها؛ هذه معية خاصة، والمعية الخاصة أيضًا قسمان: معية مضافة إلى شخص، ومعية مضافة إلى وصف؛ المعية المضافة إلى شخص كقوله تعالى: ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة ٤٠]، وقوله لموسى وهارون: ﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه ٤٦].
وبإجماع السلف أن المعية بأقسامها لا تقتضي أن يكون الله تعالى في الأرض، بل هي معية تقتضي العلم والإحاطة أو النصر والتأييد أو التهديد كما سبق، لكن مع كون الله عز وجل في السماء على عرشه.
وما زعم أحد أنها تقتضي أن يكون في الأرض إلا رجل جاهل بالله وجاهل باللغة العربية.
أما جهله بالله فلأنه فهم من هذه الآية الكريمة ما يقتضي الكفر، ومحال أن يكون كلام الله عز وجل دالًّا على الكفر، وأيضًا إذا قال: إن الله في الأرض؛ لأن الذين قالوا: إن الله في الأرض، وفهموا منه هذا الفهم انقسموا إلى قسمين: الجهمية قالوا: إنه في الأرض وليس في السماء، أنكروا علوه، وهذا من الدليل على ارتكاسهم والعياذ بالله؛ حيث أقروا بما ينكره العقل، وأنكروا ما يقتضيه العقل، اقتضاء العقل لكون الله تعالى في الأرض أو كونه في السماء؟ أيهما أقوى؟
* الطلبة: في السماء.
* الشيخ: كونه في السماء، وهم إذا قالوا: نأخذ بظاهر الآيتين، نقول: ظاهر الآية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ [الحديد ٤] ليس كما زعمتم أنه في الأرض، فإنها أضيفت المعية إلى من؟ إلى الله فتقتضي أن تكون معية خاصة به تليق به.
ثانيًا: جهلهم باللغة العربية: هل اللغة العربية تقتضي أن المعية معناها المجامعة والمشاركة في المكان؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، قصدي هي ما تستلزم ذلك، هي قد تقتضي، لكن لا تستلزم ذلك، ولهذا نقول: مثلًا هذا الرجل معه زوجته وهو في مكتبه وهي في بيتها، ويصح، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه في غزة تبوك: «إِنَّ فِي الْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَكُمْ». قَالُوا: وَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَهُمْ فِي الْمَدِينَةِ حَبَسَهُمُ العُذْرُ»(٢٠). فهذا دليل على أن المعية في اللغة العربية لا تقتضي المجامعة والمشاركة في المكان، قصدي لا تستلزم ذلك فلما لم تستلزمه، وعُلم أن هذا المعنى باطل بالنسبة إلى الله تعين أن يكون معنى قوله: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أنه محيط بنا وهو في السماء على العرش، ولا عاقل يفهم حتى العجوز في خدر بيتها ما تفهم هذا الفهم الذي فهمه هؤلاء الجهمية. وتحذلقت طائفة من الحلولية وقالوا: نحن نأخذ بظاهر القرآن في الموضوعين ونقول: إن الله معنا في الأرض وهو على عرشه في السماء، وهل هذا ممكن؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا، غير ممكن؛ لأننا لو قلنا: إن ظاهر الآية ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ في الأرض أن يكون معنا في الأرض لكان إما متعددًا وإما متجزئًا، وكلاهما باطل، فتعين أن يكون إما في الأرض، وإما في السماء فالتزمت الجهمية الضالة أن يكون في الأرض دون السماء، ولكن أهل السنة والجماعة التزموا ما دل عليه السمع والعقل والفطرة بأن الله تعالى في السماء، وأن معنى المعية التي أضافها إلى نفسه معنى يختص به ولا يقتضي المجامعة في المكان بأي حال من الأحوال.
وأنه درجة ينبغي للإنسان ملازمتها لقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة ١٥٣] فإن الإنسان إذا علم أن الله معه لا شك أنه سوف ينشط على هذا المقام ويحرص عليه، ليس كما إذا لم يعلم بذلك، إذا علمت أن الله معك لا شك أنك سوف تبقى على هذه المرتبة وتحرص عليها، وكون الإنسان يكون الله تعالى معه مسددًا له ومؤيدًا له ومصبرًا له لا شك أن هذه درجة عالية كل يريدها؛ الآن الصبيان بعضهم مع بعض إذا واحد غاضَب الثاني ثم رأوا ثالثًا يقول الواحد منهما: أنت معي ولا معه؟ إذا قال: أنا معك؛ يفرح. ولهذا لما جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى قوم يتناضلون قال: «ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ؛ فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ» وأيش سوَّى مع الجماعة الآخرين قالوا: يا رسول الله، إذا كنت معهم خلاص ما نناضلهم. فقال: «ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ»(٢١) عليه الصلاة والسلام، فإذا علم الإنسان الصابر أن الله معه يسدده ويؤيده ويصبِّره علم أنه سيفتح له باب النصر وأنه سوف يزيل عنه هذا الأمر الذي اقتضى أن يتحمل الصبر وقد قيل:
الصبر مثل اسمه.
Top 10 Slots Games: Casino Games & Bonuses - JTM Hub
ردحذفTop 10 Best Slots 울산광역 출장샵 Games: Casino Games & 과천 출장안마 Bonuses · 양산 출장안마 2. DoubleDown Casino: Best Online 구미 출장마사지 Slots Casino · 3. Ignition: Best For Mobile Slots Casino 고양 출장샵 · 4.